لم يبقَ انتهاك من انتهاكات حقوق الإنسان لم يتجرعه أهالي الغوطة الشرقية، بدءًا من الخطف والاعتقال والموت من الجوع والتعذيب، إلى القنص والذبح والقتل بالقنابل المتفجرة والعنقودية والحارقة والسامة. ثلاثة جيوش مدججة بالسلاح والعتاد تحاصر سماءها وأرضها، وترميها بنيران القذائف والصواريخ، ولم تأخذ العدالة الدولية مجراها بعد.
حصيلة الانتهاكات التي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مما استطاعت (الشبكة السورية لحقوق الإنسان) أن توثقها بالاسم والتاريخ، في الغوطة الشرقية، منذ بداية الثورة السورية حتى أواخر شباط/ فبراير 2018، تثبت أن المدنيين هم من يتعرضون للإبادة، وإلا كيف نفسر مقتل ما لا يقل عن 12736 شخصًا بنيران الحلف السوري الروسي الإيراني، منذ آذار/ مارس 2011.
وماذا نسمي اعتقال 6583 شخصًا من قبل أجهزة النظام السوري وحلفائه، وموت 1218 معتقلًا تحت التعذيب، بينهم ثلاثة أطفال وسبع سيدات، ناهيك عن أن الحصار المفروض على الغوطة الشرقية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2013، تسبب وحده بوفاة 427 شخصًا من نقص الغذاء والدواء، بينهم 221 طفلًا و72 سيدة، أما هجمات السلاح الكيمياوي، الست والأربعين، على المدنيين فهي الوحيدة من بين جرائم الحرب التي دخلت الخطوط الحمراء للمجتمع الدولي، ولم تسفر عن أي ردة فعل بعد.
من يتابع اليوم صور الدمار والموت والجوع التي تنقلها قنوات الإعلام والتواصل الاجتماعي عن بلدات الغوطة المحاصرة؛ لا يسعه أن يصدق أن هذا الحطام من الضحايا والخراب، كان في يوم من الأيام جزءًا من سياج دمشق الأخضر الذي يطوقها ويحميها ويطعمها، كان غابة من أشجار الحور والسرو والفاكهة والخضروات، تنتشر فيها جداول المياه العذبة والمنتزهات، وتصفها كتب التاريخ بأنها “جنة الله على الأرض”.
بدأ العدوان على الغوطة منذ زمن طويل، مع التغاضي عن ملفات الفساد، والتوسع العشوائي في المباني والمعامل التي قضمت نحو ثلثي مساحتها الخضراء، وحولتها إلى كتل إسمنتية، غالبًا ما كانت تفتقر إلى الشروط الخدمية والصحية السليمة، وكانت تؤوي الفقراء القادمين من المدن والأرياف السورية بحثًا عن فرصة عمل، أو الهاربين من غلاء المعيشة في العاصمة.
دوما، زملكا، عقربا، حزّة، كفر بطنا، عربين، جسرين، حرستا، مسرابا، الشيفونية، حمورية، وغيرها من بلدات الغوطة الشرقية التي باتت شهيرة في وسائل الإعلام، لم تكن معروفة حتى لدى الكثير من السوريين أنفسهم، بسبب التهميش والإهمال، تلك البلدات التي استعادت حضورها وحيويتها مع أولى نسائم الحرية، وباشرت بتأسيس منشآتها وحياتها الديمقراطية، قبل أن تردمها سياسة الأرض المحروقة التي تبناها النظام السوري، والتي قضت على كل مظاهر المدنية والحراك المدني السلمي، وأسلمت المناطق المحررة لسلطة الفصائل المسلحة.
في شباط/ فبراير الماضي، شهدت الغوطة الشرقية عودة التصعيد العسكري، وعاد طيران النظام السوري إلى استخدام القنابل المتفجرة، واستهدف المدنيين ومراكز الاستشفاء وسيارات الإسعاف وفرق الدفاع المدني، حيث قُتل ما يزيد عن 600 شخص خلال عشرة أيام، وأُصيب نحو أربعة آلاف، لم يجدوا المكان ولا الدواء لعلاج جراحهم، بينهم كثير من الحالات الحرجة التي تتطلب عناية خاصة، وأطرافًا صناعية، والجميع يعلم أن معظم من بقي من السكان هم من النساء والشيوخ والأطفال.
الكارثة الإنسانية التي شاهدها العالم بأسره، موثقة بالأرقام والشهادات الحية والمناشدات، أحرجت هيئة الأمم المتحدة، وأسفرت عن إصدار قرار مجلس الأمن رقم 2401، من أجل هدنة بدت غامضة، لأنها لم تحمل آلية للبدء والتنفيذ، ولا صيغة جزائية في حال عدم الالتزام بها، ولم تمضِ عدة ساعات على صدور القرار، حتى استأنف النظام السوري وحلفاؤه القصف على الغوطة الشرقية، وكأنهم ليسوا أعضاء في هيئة الأمم، وليسوا ملزمين بتطبيق الشرعية الدولية، أو معنيين بوقف إطلاق النار والهدنة.
ما يحدث في الغوطة الشرقية يشبه ما حدث في حمص وحلب، وما يحدث في جميع المناطق المشمولة باتفاقات خفض التصعيد، والقرار 2401 ليس إلا واحدًا من 18 قرارًا دوليًا، لم يلتزم بها النظام السوري ولا حلفاؤه، بذريعة القضاء على إرهاب (داعش) و(النصرة)، ومحاربة انتهاكات فصائل المعارضة المسلحة. لكن ذلك لا يبرر ما يتعرض له المدنيون من قتل وتجويع وتشريد في المناطق المحاصرة، إنما يلزم المجتمع الدولي باتخاذ كافة التدابير لحمايتهم، وإحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية، فهذا هو السبيل الوحيد لوقف المقتلة، وإنهاء لعبة القذف بالاتهامات وخلط الأوراق، والبدء بإنصاف الضحايا ومحاسبة المتورطين، أيًا كانت هويتهم.
يقول ألبرت آينشتاين: “إن العالم مكان خطير، ليس بسبب من يرتكبون الشر، إنما بسبب أولئك الذين يكتفون بالمشاهدة، ولا يحركون ساكنًا”.
أيها العالم، انظر إلى دماء السوريين التي غطت الأرض والسماء، ودعِ العدالة تأخذ مجراها.