اعتادت “وزناء“، ابنة الشيخ هزّاع، اغتصاب زوجها، كلما ارتفع صوته في نقاش أو حوار، أو إذا تصدّرَ حديثًا ما وإن كان عن غير قصد، أو عندما يصرّ على رأي، على قلة ما كانت تحدث هذه الأخيرة.
بلغ الأمر بزوجها متروك -على حرج- أن شكاها إلى أبيها أكثر من مرة، فما كان من الشيخ هزّاع إلا نصحه بالابتعاد عمّا يجعلها تُقدم على هذا الفعل، معتذرًا، مبينًا له عجزه عن ردعها.
عاش الرجل فترة طويلة على هامش الاهتمام، بلا وزن، وبلا حضور، تواجده فائض، وغيابه غير ملحوظ، حتى حدث أن أنقذته “الأزمة” من التهميش، بعد سباق ماراثوني مضن، أثبت من خلاله ولاءً منقط النظير، ووطنية نادرة الوجود. ألزمه منصبه الجديد -بمناسبة أو من غيرها أحيانًا- إلقاء محاضرات في التوجيه السياسي على مسامع رجال الحي، وقد بدأ يختبر ويتلذّذ طعم الهيبة الآن.. لم تأت مواسم المنايا غزيرة هكذا من قبل.
مزّقت جملة الشيخ هزاع صمت المكان، أعقبها بعض الحضور، فرشّوا حفنة من المفردات الرخوة التي تفيد التأييد والتأكيد، وسرعان ما تلاشت كضباب الصيف، فانقشع سكونهم من جديد، إلى أن هزّه -ثانية- صراخ أحدهم من خارج المضافة، معلنًا قدوم الرفيق أمين الفرع.
ضجيج محركات المركبات التي وصلت، وصوت الأغنية المُرافقة للموكب دائمًا “نحنا رجالك بشار” مخرت سماء البلدة. بدأ الرجال بتعديل جلساتهم واستنهاض قاماتهم وضبط هندامهم، والتنحنح، والتنخّع والتقشّع..
“أبو هايل”، المساعد المتقاعد الذي خسر نصف مقدرته على السمع، في إحدى معارك تشرين التحريرية، وأتت السنون على نصفها الثاني، غلبه النعاس، فأتاه التنبيه وسط هذا الضجيج جهوريًا ممطوطًا متين اللفظ، ومن أبعد زاوية في المضافة: “يا بو هايل، هييي بو هايل، قوم يا زلمي إجا جوز وزنا”. انتفض الشيخ هزاع مصححًا بامتعاض: “اسمو الرفيق أمين الفُرع محلكنش تفهموا؟ عالقليلة قول الأُستاذ متروك ولووو!”.
أوضح الرفيق “أمين الفرع”، بسلاسة وبساطة وبهدوء قدر المستطاع، الواقعَ السياسي الراهن، وفنّد المواقف الدولية وأبعادها الاستراتيجية العميقة، وظهّر المصالح الاقتصادية والسياسية المتضاربة للقوى الرئيسية المتقاتلة، ثم عرّج على تعقيدات الموقف الميداني، وأكد على رجاحة وحنكة القيادة السياسية في إدارة هذا الصراع، ولم ينس إبراز دور العدو الإسرائيلي الخفي في ما يحدث، جازمًا -بلا أدنى شكوك- بحتميّة الانتصار الإلهي على محور الإرهاب.
“عفوا بس في نقطة هون.. دخلك رفيق بدي اسألك، معليش خُذني عاقد عقلاتي، يعني هالقوات الرديفة كلياتها، بعد بتطلع من البلد بس يندحر هالإرهاب كلياتو؟”.
اختلاجات صوته في الإجابة على سؤال أبي نواف المهم، وتفاوت حدّة نبرته، واختلاف معاييرها علوًا وانخفاضًا، وتفاوت مسافة بصاقه بعدًا وقربًا، بين ضرورة حماس الخطاب الوطني وأهمية يقين الرد والاجابة من جهة، والامتعاض الضمني والقهر على مصير حتمي ينتظره بعدها، من جهة أخرى، غالبًا ما كان يُفسر من قبل المستمعين، بأنه تفوّه وفصاحة في الحديث، وفنّ في الإلقاء والإقناع. في الحقيقة أتى جوابه وخطابه حلزونيًا أشبه بصوت آتٍ من “كاسيت” قديم، وقع ضحية فم طفل بدأت أسنانه بالنمو حديثًا. إلا أن كلمات الرفيق أمين الفرع كانت تتلاشى قبل وصولها إلى أذني أبي هايل المعطوبتين؛ فصرخ به من بعيد:
“شد صوتك يا سيادة أمين الفُرع، بدنا نفهم مجريات الأحداث يا عمي”. وسرعان ما صرخ الشيخ هزاع في حركة تحذيرية قاطعة: “وزناااااا، الشاي يابا”.
كان يتجلّى حُلم الأستاذ متروك في هذه اللحظات العصيبة، ويتلخّص في أمنية واحدة: نقل مكان سكنه خارج دار الشيخ هزاع، أو على الأقل، الانتقال إلى غرفة بعيدة عن المضافة، حيث معظم اجتماعات أهل البلد؛ إذ يقوم بتوجيه غالبية خطاباته السياسية التي تستلزم بالضرورة المحاججة والصوت المرتفع، نعم هنا، في مضافة الشيخ التي تحاذيها من الشمال غرفته هو ووزناء، ويحاذيها من الجنوب مطبخ الدار، ما يعني تحقق احتمال شبه مؤكد، بتواجد زوجته وزناء ابنة الشيخ هزّاع داخل نطاق التغطية والسمع.
انتشل تعليق مدير إعدادية البلدة الرفيق أمين الفرع من حلم اليقظة: “رفيق متروك، ولا يهونوا السامعين، تواخذنيش عندي كلمتين بدي قولن وأجري عالله، تحملني معليش، إسّا نحنا خسرنا شباب شُهدا مثل طرابين الحبق، وهني عبيقاتلوا الإرهاب، صحيح؟! عال، وكمانتي معليش سامحني بهالكلمة، في نفس الوقت والتوقيت ربما، راح لنا شباب بيسوو ثقلن بفروعة الأمن تحت التعذيب، وهذول كمان شُهدا.. معليش تواخذنيش بهالكلمة، يعني مثلينا مثل أهل سوريا كلياتا، اليوم معش في شي مخبّا، يعني طلع الضو، وانعرف الكلب من الغزال، ومعش غير الكلب يعفط البِس.. صارت مسألة وقت بَس، اللي بدي قولو، معليش سامحني بهالكلمة، اللي عب يصير اليوم نحنا معش إلنا فيه لا ناقة ولا جمل. بيكفّي اللي صار وعبيصير بهالخلق، يعني معليش تواخذنيش بهالكلمة، بلغ السيل الزبى و….”. استفزّ كلام المدير السيدَ أمين الفرع، فقاطعه بحدّة وأقلع بالحديث. صرخ الشيخ هزاع: “وزنااااا”؛ فاحتدّ الرفيق أمين الفرع أكثر. أتت محاولة التحذير الثانية: “الشاي يا وزناااا”. ارتفع صوت متروك كثيرًا. جلجل الشيخ هزاع: “وزناااااااااا، وين الشاي، يا وزناااا؟”.
وقع الرفيق أمين الفرع في المحذور، استدرك، توقف عن الكلام، وغرز ناظريه بالسقف، بلع بصعوبة، ضرب كفًا بكف، وأطلق صوتًا متصلًا طويلًا يشبه علامة الـ “لا” الموسيقية، لاااااااا. ثم نظر إلى وزناء التي دخلت توًا مُختالة تحمل إبريق شاي كبيرًا.
طغى الصمت الأول، لحظات ثم هبّ أبو هايل صاحب الأذنين المعطوبتين كالملدوغ: “شوباك ولو هزّاع!؟ مفكرنا مش شربنين شاي بحياتنا، خلينا نفهم مجريات الأحداث بالأول، ها إجت وزنا، صبّي شاي لجوزك يا وزنا، صبي.