تظهر (لمار) كما لو أنها تعويذةٌ كتبتها يد ابتسام تريسي، وألقت بها فوق عَتبة قرية “تل الجرب”، منذ أن وصلت إليها عائلة سليمان في خريف العام 1910، وسكنت “بيت الحسنة”، حيث للبؤس هناك رائحة وملمس، تعرفها أبدان العائلة الغريبة في نسبها المقطوع، وفي هربها. هي رواية “يونس” التي لم يكتبها أحد، لكنها غافلت حواس السجان، وتسربت من دغل العتمة في أقبية التعذيب التابعة لمدرسة المخابرات السورية في العام 2013، وسمعها الأستاذ بالمصادفة، من فم راويها، لكنه لم يتمكن من كتابتها، كما وعد. بقيت سردًا شاقًا على التصديق، يطل من بطن الحوت، ولا يخرج مكتوبًا. بقيت حكايةَ بلدٍ سقط من الجرف، ولم يقم بعد.
تختار الكاتبة، في رواية (لمار) الصادرة عن مكتبة الدار العربية للكتاب، عام 2015، حبكةً تقوم على خطين: أحدهما أساسي يتتبع مسيرةَ عائلة سليمان، بين العام 1910، والعام 2000، وخط آخر ثانوي يتناول تفاصيل انتقال “يونس” بين فروع المخابرات السورية خلال العام 2013. نتعرف عليه في بداية الرواية قابعًا مع خوفه داخل فرع المخابرات الجوية في حرستا، تجوس يده داخل تراب ذاكرته، فتنبش صورة والدته من بين الحطام، “السيدة الحديدية”، المدرّسة التي ربته بصبر، وهي تعاني من صليل الفقدان. لم تنسَ ابنها الصغير الذي فارق الحياة قبل خمس سنوات، ولا نسيت زوجها الغائب، ولطالما اعتقدَ يونس بأنه مسافر، ووالده معتقلٌ في سجن المزة. وحين يلتحق يونس بالخدمة العسكرية، يفرزونه كما أقرانه المتفوقين في كلياتهم، ليكونوا تحت إمرة الجنرال، حيث يتعرف عليه، ويؤلف له كتابًا عن تاريخ العرب، ويختلس له أشعار أبيه المعتقل، فينشرها الجنرال باسمه تحت عنوان (ترانيم الحزن خلف قضبان الخوف)، وفي نهاية الثمانينيات يموت والده داخل السجن، بعد مرور اثنين وعشرين عامًا على اعتقاله.
تنتهي خدمة يونس العسكرية، ولا تنتهي علاقته بالجنرال. إذ يعود ويكلفه بتأليف كتابٍ يتناول حياة وفكر القائد. لاحقًا ومع بداية الثورة عام 2011، ينوي يونس تأليف كتابٍ آخر يكون روايةً هذه المرة، ولهذا السبب اعتقلوه، ظل شهرًا في فرع فلسطين، ثم نقلوه إلى فرع الخطيب، وأخيرًا وصل إلى فرع المخابرات الجوية في حرستا.
تنتقل الكاتبة، إذن، في حبكتها بين الحاضر متجسدًا في صبر يونس المعتقل، وانبساط ألمه أمامه كملاءة السرير، وبين السيرة التاريخية المتعرجة لعائلة سليمان، وهذه تقنية سردٍ تمسكت بها الكاتبة، بعدما كانت قد استخدمتها في روايتها (مدن اليمام). تقترح تريسي في (لمار) البناء الواقعي للحبكة، وإن بأسماءٍ ليست بالأسماء الحقيقية للأمكنة وللأشخاص على السواء، هي روايةٌ تمكث بين دروب الوصف والتحليل النفسي، وهي رواية التفاصيل، وانحدار القيم الإنسانية أيضًا، منذ أن استوطن الحقد قلب لمار، وجعلها تراقب بغل كيف أن السيدة “أسما” صاحبة بيت الحسنة تكيل بالهدايا والعاطفة على شقيقها الصغير علي (سماه سليمان على اسم ابن أسما الميت)، وجعلها تمقت والدها الذي لم تشعر يومًا بعاطفته أو أبوته تجاهها. وبعد طلاقها من زواجٍ لم يصمد أشهرًا، صارت تعمل لدى السيدة أسما، وحلمت بأن يرث صخر ابن علي ثروة (أسما).
تمسك الكاتبة شخصيةَ لمار بعناية، تقودها من يدها كي لا تقع، ترتب تطورها تدريجيا، كأنها ترتب لها هندامها، وتطرحه كتساؤلاتٍ، وكيقينٍ في آن، منقادةً إلى غزارة الواقع والتاريخ، وقد أسندت سردها إليهما. تكتب عن لمار، ثم تعود إلى يونس المعتقل، راويًا لرفيقه الأستاذ ما ترويه الكاتبة عن عائلةٍ، عاشت في مهد الفقر والمهانة، ثم ارتدت بريق السلطة، ولم تخلعه عن جسدها قط، منذ أن أوحت لمار لابن أخيها (صخر) بضرورة امتلاكه للسلطة، والجيش وصفةٌ مناسبة لتحقيق ذلك، فيظهر في العام 1952 وقد التحق بالكلية الجوية في حمص. نقرأ في الصفحة 52 عن سطوة حلم السلطة عليه: (الآن عليه تنفيذ حركات بهلوانية بالطائرة، سيقلب رأسه نحو الأسفل، انقبض قلبه، لن يكون ذلك فألًا جيدًا، فقد اعتاد النظر إليها من فوق، يراها دائمًا تحت قدميه، وهو يعلو، ويهبط، ويستدير، ويحلق، وتبقى تحته، ويبقى فوقها! في تلك اللحظة يتجلى الحلم كحقيقة أمام عينيه، تبدو فيه العاصمة ملك يديه، سورية كلها بين راحتيه). بعد ذلك بثلاث سنوات، يخيب قلب الملازم الطيار صخر، حين تقدم لخطبة شفق ابنة منصور، كلاهما رفضه، وطرده حفيد (أسما) من قصره بقسوة، واصفًا إياه بابن الخادم. لكن المصادفات قادته ليتزوج من أسينة ابنة تاجر قماش ثري، وكانت لمار قد نصحته بترك القرية المنحوسة، والانتقال إلى العاصمة مع زوجته، فهناك مستقبله.
تدقق تريسي في مسالك شخصياتها الواقعية، تميل إلى التقاطها ضمن مفاصل تاريخية محددة، حيث تحضر أسينة حفلةً في دار ميساك (الاسم الذي أطلقته الكاتبة على دمشق) في عام 1963، تعني فيه مها الجابري بعذوبة، وهو العام الذي جاءت فيه لمار إلى دار ميساك، للاعتناء بأبناء أخيها مي، ومجيب. وهو العام الذي يدخل فيه الضابط مغيث حياة أسينة وصخر، ويعيده إلى عمله في الجيش، وهذه المرة قائدًا لسلاح الجو. يظل السرد ممسكًا بحبال الواقع ومكائده المعلومة، فالحبكة متوقعة، لأنها إعادة تدوينٍ أدبي لقرنٍ كامل من تاريخ البلاد، حيث تلد أسينة ابنها الثالث بتاريخ 11 أيلول عام 1965، ويغدو صخر وزيرًا للدفاع، على إثرَ انقلابٍ حدث عام 1966، ولا تظهر أي فجاجة لدى الانتقال بين خطي السرد، حيث تعيدنا الكاتبة إلى الراهن، تطل بنا على قبو المخابرات الجوية في حرستا، بتاريخ كانون الثاني عام 2013، حيث يظهر المقدم الملتحي “أبو الموت”، ليتحدث إلى يونس مظهرًا سطوة السلطة الأمنية، نقرأ ذلك في الصفحة 115: (أي سيد يونس، هات لشوف، سمعت أنك مؤرخ، والجهات العليا تفتخر بوجود أمثالك لديها. الجنرال شخصيًا أرسل توصية بك! لكن.. ما لا يعرفه الجنرال أنه لا يوجد عندي كبير، طز فيك وفيه.. أنا لا أقبل توصيات من أحد).
ثم يظهر الظفر بالسلطة، وكأنه فعل تطهرٍ نهائي من مسالك البؤس والمهانة، تلك التي انحفرت عميقًا في الروح كأثلامٍ لا تندمل، ومعادلٌ موضوعي غير واع لتصحيح مسار العطب النفسي، عند شخوص تريسي الواقعية؛ إذ يوعز صخر للجنرال بضرورة هدم قصر منصور في تل الجرب، لفتح طريقٍ دولي مكانه، ويضع مغيث في سجن المزة، ليعيش مهانة الاعتقال الطويلة بدلًا من إعدامه، ولا يتوقف السرد عن ملاحقة الواقع بغية التقاط ملامحه العاصفة، في محطات تاريخية التصقت بالعائلة، ولم تتوقف في اندفاعاتها المجنونة، ولم تتريث قط لالتقاط أنفاسها، وعندما ينهي يونس قَص حكاية العائلة على الأستاذ، في يومٍ من شباط عام 2013، وهو لا يزال محتجزًا داخل زنزانة في بناء المخابرات الجوية في حرستا، يكون الموت على مقربة خطوةٍ منه، يعيده الجلاد جثةً يرميها أمام رفاقه. في وقتٍ يخرج فيه الأستاذ، ويعود إلى منزله في جبل الزاوية. يحاول هناك كتابة حكاية عائلة سليمان الجد، كما وعد يونس، لكنه يخفق، ويتراءى له طيف (لمار) مرةً، وكأنها تعويذةٌ هائمة في أثيرٍ كوني، لا هدف لها سوى تمكين العائلة من السلطة بوصاياها العشر التي لقنتها لصخر، والتي حفظها كدستورٍ خفي، كطلاسمٍ تطيل عمر السلطة، وتطيل عمر الوجع أيضًا.