شيء ما:
“ماذا تفعل في الحرب؟”
“أهرب”
“أغني مثل غراب”
“أمرض”
“ربما أموت”
“وأنت؟”
“ألتصق أكثر وأكثر بمن أحب.”*
أول مرة قرأت فيها قصيدتك هذه، لم أكن أعرف الحرب يا خالة، لم أكن قد مارستها بعد. في عام 2010 كانت الحرب تعني دبابات في وجه دبابات، مضادات للطائرات في وجه طائرات، كانت الحرب يومها جنود مغاوير يسيطرون على تلال ودشم للعدو، وكانت -دائمًا- على أرض الجولان الذي لم أعرف حتى الآن كيف فقدناه، ولا كيف سنستعيده.
في ذلك الزمن، قصيدتك، يا خالة سنية، جعلتني أرى في الحرب فرصة رومانسية، وسيلة حب ترفع الأصبع الوسطى في وجه الموت، الحرب تصبح نقيضها، تصبح سلامًا، فأعرف النقيض بالنقيض. كم هي جميلة تلك الحرب التي ستجعلني أغني كغراب، وإن مت فسيبكي من التصقت بهم حبًا، لا على موتي، فالشهادة عرس، بل على نشازي، وأنا أنعق فرحًا بإطلالنا على طبريّا مثلًا.
ثم قالوا وقلنَ (ولم تقولي أنتِ) إنك كتبتها، بعد كارثة حزيران/ يونيو، كارثة استمرت حربها ستة أيام فقط، فهل تكفي ستة أيام لنلتصق أكثر وأكثر بمن نحب؟! لا أعتقد أن الوقت كاف لنعرف أن هناك حربًا أصلًا في ستة أيام، لذلك شطبت هذا الخيار وقررت أنك نبيّة، تنبأت بحرب لبنان الطويلة. كل هذا الترف كان قبل أن تشرّفني الحرب الحقيقية بحضورها البهي، قبل أن يجعلني الرصاص أهرب، وقبل أن تغني الطائرات فوقنا كالغربان. لم تكوني نبيةً إذن، بل عاشقةً من العصور الوسطى، أغواها فارس من فرسان الهيكل لا أكثر.
في الحرب اليوم، يا خالة سنية، تلتصق الأم ببناتها وأبنائها في قبو معتم، كي لا يموتوا فرادى، يلتصق الجار بالجار أكثر لا حبًا به، بل لأن المكان لا يتسع لكل هذه العائلات، ثم تأتي القذيفة فتجعل المكان واسعًا أكثر مما ينبغي.
الحرب اليوم بين عدوين أحبّا بعضهما فالتصقا أكثر وأكثر، العدوّان لا يموتان، الأبرياء فقط يموتون، الأبرياء فقط يبحثون عن حفنة طعام في الأقبية المحصنة بردم بيوتهم، الأبرياء فقط من يهاتفهم أحمد من بيروت، فيقول له أحدهم: “شريك أنا مضطر إتخبى، بحاكيك بعد ساعتين إذا ضليت عايش“، وحدهم الأبرياء من يضطرون إلى الاختباء هناك في الغوطة، أما من يعصرون دمها، فيخلعون قبعاتهم محيين بعضهم بعضًا، يتبادلون القُبل قبل الجلوس إلى مأدبة الطعام.
ما كنتِ ستكتبين لو عشتِ حربنا هذه؟ لو فاتتك فرصة الموت؟ هل كنتِ ستشتمين أولئك الذين خرجوا في تظاهرة يهتفون فيها بأنهم ما عادوا يريدون الحرية، وأنهم سيكتفون بالوحدة الوطنية. نعم، تخيلي هناك من شتمهم، أولئك الذين ذاقوا الموت في عيون أطفالهم، وقلوب آبائهم، وأجساد جداتهم، هناك من شتمهم، لأنهم أرادوا الحياة. ما رأيك أنتِ؟
خالتي سنية، هذي الحرب التي فرمتنا كساطور الجزار، الحرب التي يشنها قائد البلد على البلد، هذي الحرب الطويلة منعتنا من الالتصاق أكثر وأكثر بمن نحب، منعتنا من أن نلتصق بذواتنا حتى، وغدًا حين تنتهي، لن أجرؤ على العودة إلى سورية، هناك من يقول إن العائدين سيكونون خونة للثورة، خونة لأهالي الغوطة وحلب وحمص وعفرين ودير الزور وغيرها من سورية، مع أن العائدين سيكونون من أهالي الغوطة وحلب وحمص وعفرين ودير الزور وغيرها من سورية. يقولون: كيف سنعود لنعيش مع من ارتكب كل هذه الجرائم. أما أنا، يا خالتي، فلن أعود لسبب آخر، لن أعود لأني لن أجرؤ على العيش مع أولئك الذين ارتُكِبت الجرائم بحقهم. كيف لي أن أنظر في عين السيدة التي حمَت أطفالها بقماش حجابها فقط لا غير، وأطعمتهم من جسدها تحت القصف ذات يوم، وأنا في ذلك اليوم نفسه كنت آكل شريحة من سمك السلمون مع قليل من الزيت والليمون؟!
خالتي سنية، أعتقد أن ما فعلناه في الحرب هو أننا هربنا وغنينا كالغربان، ومرضنا ومتنا، ولم نلتصق أكثر بمن نحب، ولا أعتقد أننا سنفعل يومًا.
* سنية صالح، ديوان حبر الإعدام، 1970