مقالات الرأي

سبعة أعوام على ثورة السوريين… توضيحات أولية

 

تدخل الثورة السورية عامَها الثامن، والمشكلة أن هذه الثورة المستحيلة واليتيمة والمدهشة والأكثر تكلفة، بين ثورات “الربيع العربي”، ما زالت تواجه مزيدًا من التعقيدات والصعوبات والتدخلات الدولية والإقليمية، التي تتوخى تصفيتها أو حرفها أو السيطرة على التداعيات الناجمة عنها. ولعل ذلك يفسر أن التحليلات المتعلقة بمآلات الوضع السوري أضحت مشوبة بشحنات من المرارة والقلق والألم والإحباط، على الأغلب؛ إذ لا بد أن نتذكر هنا أننا نتحدث عن نظامٍ يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة وبالصواريخ، منذ سبعة أعوام، وأنه استعان بدولتين هما روسيا وإيران، مع ميليشيات طائفية مسلحة من لبنان والعراق وأفغانستان، وأنه نجم عن ذلك كله مصرع مئات الألوف من السوريين، وتشريد أكثر من عشرة ملايين، داخل وخارج سورية، مع آلاف القتلى في المعتقلات، وعشرات آلاف السجناء، فضلًا عن الحصار المشدد على بعض المناطق.

ربما أن المشكلة الأكبر، فوق كل ما تقدّم، أن ليس ثمة أفق واضح، وأنّ سورية باتت مقطعة الأوصال، تحت سيطرة أربع دول: الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا، مع نظام مرتهن وفاقد السيادة، ومع شعب مجزأ ومشتت ومنقسم على ذاته، ومعارضة ضعيفة، تنهي أعوامها السبع، من دون آفاق لا على صعيد بناء ذاتها، ولا على صعيد تحقيق أهدافها. مع كل ذلك، وفي مطلع العام الثامن، لا بد من تقديم التوضيحات الآتية:

أولًا، لم تكن ثورة السوريين على النظام، الذي حكمهم قرابة نصف قرن، خيارًا بين مجموعة خيارات متاحة، فالثورات تنجم عنها، في أغلب الأحوال، كلف باهظة في الأرواح والممتلكات، وهي تحصل لكسر الاستعصاء الذي تشكله النظم الاستبدادية التي تعوق التطور السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي في البلد المعني، أي أن الثورات -سلمية كانت أو مسلحة أو بين هذا وذاك- هي حالة اضطرارية وعفوية، وكلفتها تتأتى من قوة السلطة المهيمنة، وبقدر عنادها ومقاومتها للتغيير؛ ما يفيد أن الطريق الأنسب والأسلم إلى التطور هو طريق التغيير السلمي والديمقراطي والطبيعي، إن كان متاحًا بالطبع.

ثانيًا، تأتي الثورات بشكل مفاجئ، على شكل انفجارات لا يمكن هندستها أو تنظيمها أو التحكم بتداعياتها أو مآلاتها، كما لا توجد مسطرة معينة لها، وهي لا تأتي بحسب الرغبات. لذا، وتبعًا لكل ذلك، فهي قد تنجح وقد تفشل، وربما تنجح جزئيًا، كما أنها قد تنحرف أو يجري التلاعب بها، علمًا أن التنظير للثورات، في فترة ما قبل القرن العشرين، أتى بعد حدوثها، علمًا أن الواقع ومعطياته شيء، والكتب أو النظريات شيء آخر؛ مع كل الاحترام لنظريات العمل الثوري.

ثالثًا، إن الثورات، عندما تحصل، لا يشترط عليها، لأن الوقوف معها هو وقوف مع حركة التاريخ، مع الشعب، مع الضحايا، مع المظلومين، وهو انحياز إلى قيم الحرية والكرامة والعدالة، أي أنه موقف منطقي وسياسي وأخلاقي، هذا مع إدراكنا ما للثورات وما عليها، أي أن ذلك لا يعفيها من النقد القاسي، لخطاباتها وبناها وأشكال عملها، بل إن هذا العمل بالذات هو من صلب العملية الثورية ذاتها.

رابعًا، في ما يخص الثورة السورية، فهي أول تجربة سياسية للسوريين، وتأتي من دون صلة بتجربة حزبية سابقة، بل هي أول تجربة من نوعها في تاريخ المجتمعات، في هذه المنطقة، للصعود إلى حلبة التاريخ، ومن هنا تكمن أهميتها، مع معرفة الأثمان الباهظة المدفوعة. إزاء ذلك؛ يفترض إدراك أن تلك الأثمان وذاك الخراب، إنما تتحمل مسؤوليتهما الأنظمة الاستبدادية السائدة؛ لأنها تقاوم التغيير، ولأنها أصلًا تريد تأبيد حالة التخلف والاستعباد والاستبداد في المنطقة، وفقًا للشعار المشين: “سورية الأسد إلى الأبد” مثلًا. ومن الأصل، فإن هذه الأنظمة (جمهورية أو ملكية)، هي المسؤولة عن اندلاع الثورات أو الانفجارات المجتمعية، بسبب تسلطها وجبروتها وإعاقتها قيام دولة المواطنين والمؤسسات والقانون.

خامسًا، في نقاش حال سورية اليوم، لا يمكن التكهن، على نحو يقيني، بالتداعيات والمآلات؛ إذ لا يبدو أن ثمة في الأفق ما يحمل على الاعتقاد باقتراب الخلاص، فالأوضاع الدولية تعاند السوريين، ولا تتجاوب مع الحد الأدنى لمطالبهم، والأوضاع العربية والإقليمية لا تساعدهم على نحو مناسب، بل إن بعض الأطراف وجدت في هذه الثورة فرصتها لفرض ذاتها، كفاعل إقليمي، من خلال التلاعب بالثورة، وفرض مسارات أو خطابات معينة عليها، كما حصل في الدخول الروسي المباشر على خط الصراع في سورية وعليها، وما حصل في موقف تركيا، بعد توافقاتها مع روسيا وإيران، في مسار أستانا التفاوضي، وفي اتفاقات خفض التصعيد، إذ بات أمنها القومي أساسًا لموقفها مما يجري في سورية، لا دعم ثورة السوريين؛ كما يفترض.

سادسًا، في المحصلة، نحن الآن إزاء واقع معقد جدًا، مفاده أننا إزاء صراع مديد ومفتوح ومعقد ومتداخل؛ إذ لا يستطيع النظام، ولا المعارضة، حسم الأمر، وأن سورية باتت ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، غدا فيها وزن السوريين في حسم هذا الصراع أقل من السابق، في حين باتت اليد الطولى، في إطالة أمد الصراع أو حسمه أو التحكم بنتائجه، هي يد الدول الكبرى: روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وكلمة الفصل لهذه الأخيرة.

بيد أن كل هذه التوصيفات والاستنتاجات لا ينبغي أن تصرف الانتباه عن أن سورية، الدولة والشعب، لن تعود إلى السابق، وأن الثورة السورية -على علاتها- أنهت، إلى الأبد، فكرة “سورية الأسد”، بكسرها الانسداد الحاصل في تاريخ سورية، وهذا شيء ليس بالقليل، وغير مسبوق، بالنسبة إلى الشعب السوري، ومجتمعات هذه المنطقة.

المعنى من كل ما تقدم، باختصار، أن كل شيء في سورية بات مرهونًا بطبيعة القرار الدولي، بخصوص وقف الصراع أو استمراره، كما هو مرهون بقدرة السوريين على إعادة بناء ذاتهم، وصوغ توافقاتهم الوطنية.

مقالات ذات صلة

إغلاق