(1)
عندما يوجد الأساس الموضوعي لتأسيس الدولة، وهو المجتمع الذي اختص بوطن؛ فإننا نكون أمام حاجات سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وتنظيمية، وقانونية، وثقافية، تستدعي تأسيس هذا الجهاز الذي يسمونه (دولة)، لكن الدول لا تؤسس دائمًا على هذا (الأساس الموضوعي)، فقد تتدّخل عوامل خارجية، أو عوامل داخلية، في اصطناع دول لا أساس لها إلا مصلحة الذين يؤسسونها، لاستخدامها في عدوانهم على المجتمع الذي تقوم عليه، أو على جزء منه، أو على الوطن وثرواته، أو على ذلك كله.
والدولة بمفهومها الحديث لم تنشأ ابتداء، وإنما ولدت في ظل الظروف السابقة على تأسيسها الحديث، فقد ولدت (الدولة الحديثة) من رحم الإمبراطوريات التي بدأت بالتداعي، بعد التكوين القومي للأمم، حيث برزت حاجات التحرر من الإمبراطوريات التي لا تعترف بحدود للإمبراطورية إلا حدود قدرتها، والإمبراطوريات نفسها كانت قد ولدت من رحم المدن وأنظمة الملوك والسلاطين والحكام الذين وجدوا في التوسع الإمبراطوري تلبيةً لحاجات الحصول على الثروات، والدفاع عن المدن بإبعاد خطر قبائل الغزاة، وحماية (الحضر من البداوة). تلك الأنظمة التي كانت قد ولدت من استقرار الشعوب والقبائل، في أماكن الخصب، وأودية الأنهار، بعد أن أصبح نظام “شيخ القبيلة” لا يلبي الحاجة. وصولًا إلى نظام “ربّ الأسرة”.
هكذا، فإننا نجد أن الظروف الموضوعية (المادية والبشرية) للمجتمع (الداخلية والخارجية)، في لحظة تأسيس الدولة، هي التي تستدعي الطريقة التي تتم بها عملية التأسيس، فقد يستدعي هذا التأسيس ثورة شاملة للتخلص من النظام القديم، فيتحول قادة الثورة المنتصرة، إلى هيئة مؤسسين للدولة الحديثة، تتفق غائيتها مع غائية الثورة التي انتصرت، وقد يستدعي تأسيس الدولة، في ظروف مجتمع آخر، حرب تحرير (تطول أو تقصر) لتحرير المجتمع من احتلال أجنبي، ثم يتحول قادة حرب التحرير إلى هيئة مؤسسين لدولة حديثة، تتفق غاياتها مع معارفهم وأهدافهم في تحقيق ما كان الاحتلال يحول دون تحقيقه. وقد يستدعي تأسيس الدولة تسيير الجيوش، وخوض المعارك لاحتلال أرض الآخرين، ثم تأسيس دولة عليها، وهذا ما فعله الاستعمار، في أغلب مناطق آسيا، وأفريقيا، وأميركا، حيث تشكلت هيئات المؤسسين من وزراء خارجية الدول الاستعمارية، ووزراء دفاعهم، ورؤساء أركانهم، وعلماء الآثار، وأساتذة التاريخ، وعقدوا الاجتماعات، والمعاهدات، وأسسّوا تلك الدول، ونفذتها جيوشهم التي أسست لتلك الدول مؤسساتها وجيوشها ومخابراتها، وصاغت لها دساتيرها، وقوانينها ثم تركتها (دولًا). وقد يستدعي تأسيس الدولة، في مكان آخر، اكتمال التكوين القومي لأمم مجاورة محددة، بشرًا وأرضًا، مما يفرض على الجماعة البشرية المحصورة بين تلك الدول، ولو كانت من أمم مختلفة، أو من جماعات في طور التكوين المجتمعي، أن تفرز دولة خاصة بها. وقد يتم الانتقال السلمي إلى الدولة الحديثة؛ فتكون هيئة المؤسسين خليطًا من القوى الصاعدة، والقوى المنحلة، فيبقى للنظام القديم شكلًا مستمرًا، ويتخلى عن مضمون السلطة الفعلية للقوى الجديدة، مثل العرش البريطاني، والإمبراطور “هيروهيتو”.
(2)
نحن لا نسرد ذلك لمجرد السرد التاريخي لتأسيس الدول، ولكن لنشير إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن “ظروف التأسيس”، و”هيئة المؤسسين”، وطريقة التأسيس، وطبيعته، وأثره، لا تنتهي بمجرد تأسيس الدولة، وإنما تمتد في مؤسسات الدولة قوانين وأنظمة نافذة في الحاضر، وإلى مستقبل قد يطول أو يقصر، كما أن العديد من مشكلات الدول وأزماتها، وشرعيتها، وعدم شرعيتها، لا يمكن فهمها إلا بفهم مرحلة التأسيس، وإذا رافق التأسيسَ خطأ جسيم، فقد يقتضي الأمر تأسيسًا جديدًا، ودولة أخرى.
لقد كان البشر -وما زالوا- يتطلعون إلى (نظام)، (سلطة)، (دولة)، يكون/ تكون أداتهم، يكون/ تكون لهم، لا عليهم. وعبر تاريخهم الطويل، تفننّوا في صنع تلك الأداة وتطويرها، وهي لم تتكوّن بعدُ كما يريدون، وهم سيواصلون الإبداع في هذا المجال، لقد استسلموا للاستبداد فترات طويلة من تاريخهم، وكانوا يفلسفون للمستبدين استبدادهم، ويسندونه إلى الآلهة القديمة حينًا، أو إلى اختصار الموضوع، واعتبار المستبدين هم الآلهة، وعندما صدّق فراعنة مصر ذلك، صنعوا الأهرامات، أو شادتها لهم الشعوب، لأن للآلهة الخلود، ثم أسندوه إلى الحق الإلهي، أو العناية الإلهية، ثم إلى حق طبقة في الديكتاتورية، قانونًا، أو حقها بقوتها الموضوعية، لكن السلطان أو الحاكم الذي كان يُعبّر عن نفسه بصراحة، بأنه الإله، أو هو ممثله، أو هو اختاره، أو إلى أن قال لويس الرابع عشر (أنا الدولة)، وقال من تلاه أكثر من ذلك. أما في العصر الحديث، فإن القضية أصبحت مُركبّة، وفي بعض الأحيان، شديدة التعقيد، حيث دساتير الدول المتلاصقة تسند السلطة إلى الأمة، أو الشعب، وتمارس السلطة (بحكم الشعب بالشعب)، وهكذا.
(3)
“في المجتمع الأفريقي، كان الحاكمون هم (القواد العشرة) الذين يعنون بشؤون الحرب، وشؤون السياسة، ثم في أثينا، كانوا ضباط المدينة (العشرة) الذين يحفظون النظام في المدينة، وضابطو السوق (العشرة) الذين كانوا يراقبون الأوزان، ثم يأتي بعدهم مجلس الشيوخ، وكان يتكوّن من (عشر) مجموعات، كل منها خمسون شيخًا، ولم يكن العدد (عشرة) ضرورة فنية للحكم، بل كان تقسيمًا للمناصب السيادية فيما بين حلف القبائل العشر التي كانت تملك أثينا فعلًا”(1).
“تحت هؤلاء جميعًا كان يأتي دور المواطنين الذين لهم حق الحضور في الاجتماع الشعبي، وهم قلة، فقد كان الذين لهم حق الاجتماع حوالي 43 ألف من جملة السكان، وعددهم حوالي 315 ألف نسمة، ولم يكن يحضر الاجتماع فعلًا أكثر من ثلاثة آلاف”(2).
وكان لا بد “لكي يستطيع ذلك الشعب إصدار قراراته أن يكون قد تم تحضير أعماله من قبل، وصيغت القرارات صيغة مناسبة قبل عرضها عليه، حتى يمكن أن يُبدي رأيه في نصوص محددة مدروسة، وكان مجلس الشيوخ ممثل القبائل العشرة هو الذي يناقش ويدرس ويعدّ مشروعات القرارات التي تعرض على الشعب، ولم يكن من حق الشعب مجتمعًا إلا أن يرفض، أو يقبل ما يقدمه إليه مجلس الشيوخ، ولا يملك المناقشة في أي موضوع آخر، كان على الشعب بأن يقول (نعم)، أو (لا) فقط”(3).
وعندما يُدعى الشعب إلى الاجتماع، وما كان ليجتمع إلا بدعوة من “القادة العشرة”، فإن حق المناقشة لم يكن متاحًا لكل واحد من المواطنين الحاضرين “كان يشترط في من يصعد إلى منبر الخطابة ألا يكون مدينًا للمدينة، وأن تكون أخلاقه طاهرة، ومتزوجًا زواجًا شرعيًا، ويمتلك عقارًا في (أتيكا منطقة القبائل المتحالفة مركزها أثينا)، وأنه قد أدى جميع واجباته نحو المدينة، واشترك في جميع الحملات الحربية التي أمر بالاشتراك فيها، وأنه لم يلق سلاحه ويفر من أي معركة”(4).
ثم تبدأ المناقشة عن طريق الخطابة تحت رقابة حفظة القانون، “وكان أولئك سبعة يراقبون (الشعب) في اجتماعه، وهم جلوس على مقاعد عالية، فإذا سمعوا خطيبًا ينقد قانونًا ساريًا؛ أوقفوه، ثم أمروا (لا بأن يصعد غيره إلى المنبر)، ولكن بفض اجتماع الشعب فورًا”(5).
(4)
من هذا النظام الإغريقي، اشتقتّ الديمقراطية اسمها، إذ هي “حكم الشعب”. (ديموس) تعني الشعب، و (كراتوس) تعني الحكم. وبه “يُضرب المثل عادة للديمقراطية المباشرة، ويتباهى به كثير من الأوروبيين كتراث لحضارتهم”(6).
ويقولون إن الديمقراطية، بأي معنى، هي نظام منع الاستبداد بالشعب، والاستئثار دونه بالسلطة، “وهذا كله يفترض ابتداء وجود شعب من الأحرار المتساوين في الحرية. ولم تكن المساواة في الحرية متوفرة، لا في المجتمع الإغريقي، ولا في المجتمع الروماني، حيث ساد النظام العبودي. وإنما هو تنظيم لجأت إليه (القلة من الأحرار)، لممارسة الاستبداد بالسلطة وتقسيّم وظائفها فيما بينهم”(7).
علاقة موضوع (الاستبداد) بتأسيس الدولة علاقة وثيقة، فالمستبدون إما أن ينوبوا عن المجتمع بتأسيس الدولة ابتداء، معتمدين على ضعف في بنية المجتمع، وإما أن يتمكنوا من اغتصاب سلطة الدولة، معتمدين على خلل ارتُكب (عمدًا أو خطأ) أثناء عملية التأسيس.
يقول د. عصمت سيف الدولة: “كان الاستبداد الذي يُلغي وحدة المجتمع، أو يُلغى تعدد الأفراد فيه، قائمًا بصورة، أو بأخرى منذ بداية البشرية، وما يزال قائمًا في مجتمعات كثيرة معاصرة، إنما الذي تغيّر أو تطوّر أو تحضّر، هو مبرراته كما يدعيّها المستبدون، والمنتفعون من الاستبداد. ومن بين المستبدين والمنتفعين منه طغمة كثيفة العدد، متصلة الأجيال من كهنة، وفلاسفة، ومفكري الاستبداد. وكان المستبدون يطورون أفكارهم على مدى التاريخ، وكانوا مع ذلك مُكرهين، بفعل مقاومة الشعوب للاستبداد والتطور الحضاري الذي أصابته البشرية، في كل المجالات الفكرية والعلمية والتطبيقية، فكان لا بد للمستبدين ومفكريهم، في كل عصر، من أن يستروا عورة الاستبداد بنسيج من صنع العصر فكرًا أو علمًا أو ممارسةً، لأنه أقوى على إخفاء السوءة وتضليل الشعوب”(8).
(5)
وهكذا؛ لا بد قبل تحديد المستند الشرعي لتأسيس الدولة، من البحث في الظروف الموضوعية والذاتية التي أحاطت بهذا التأسيس، وحتى إن دراسة المناهج والنظريات تقتضي تحديد مواقع الفلاسفة والفقهاء، في عملية الصراع بين أنصار إسناد تأسيس الدولة إلى المجتمع وبين أنصار إسنادها إلى الآلهة، أو إلى (ظلالهم) الحكام على الأرض، فلم يكن توما الإكويني (1225-1274) يُساند البابوية التزامًا بأفكار اهتدى إليها بعيدًا عن الكنيسة بل كان، وهو يفكر ويكتب، يشغل منصبًا في المؤسسة الكنسية (هو المستشار الفكري للبابا). ولم يكن بودان (1530-1596) يؤلف دفاعًا عن الاستبداد الملكي لوجه الحق وحده بل كان، وهو يؤلف، يشغل منصبًا في البلاد هو (المحامي الخاص للملك). وكان توماس هوب (1588-1679) يدافع عن الملكية، حين كان موظفًا مدرسًا خاصًا لأمير ويلز الذي أصبح الملك شارل الثاني في إنكلترا. وحين أصبحت قضية الملكية خاسرة، لم يكن قد انتهى من تأليف كتابه “العملاق” (إنجيل الاستبداد الملكي)، فأضاف إليه فصلًا أخيرًا يهاجم فيه الملكية، وينافق للعهد الجديد، ليعود من منفاه من فرنسا”(9).
وهذا (هيغ) الذي عاصر تهديد جيوش نابليون لبلاده (ألمانيا)، يرى في (مكيافيلي) (الذي يضع توحيد إيطاليا فوق كل اعتبار)، نموذجًا لعقلية عظيمة وروحانية نبيلة، وكأنه يُحرّض على توحيد ألمانيا للوقوف في وجه جيوش نابليون، يقول هيجل: “في أحد العصور السيئة الطالع، عندما كانت إيطاليا تسير مسرعة، باتجاه نكبتها، وعندما كانت تدور فيها معارك الحروب التي أشعلها الأمراء الأجانب، وعندما كانت تعد لهذه الحروب وتدفع ثمنها في الوقت نفسه، وعندما جردّها الجرمان والإسبان والفرنسيون والسويسريون من كل ما تملك، وكان مصيرها في يد هذه الدولة الأجنبية، أو تلك؛ قام سياسي إيطالي بتقديم تصور كيف يمكن تحرير إيطاليا، عن طريق اتحادها في دولة واحدة، وكان يشعر حينئذ شعورًا عميقًا بهذه النكبة، وبما ترتب عليها من كراهية وفوضى وجهالة. فعلى من يقرأ كتاب الأمير لـ (مكيافيلي) أن يراعي تاريخ القرون التي سبقت مكيافيلي، وأحداث تاريخ إيطاليا التي عاصرها، ولو فعل ذلك، فإنه لن يرى مبررًا لظهور هذا الكتاب، فحسب بل سيرى أن هذا الكتاب قد دلّ على نظرة عظيمة صادقة لعبقرية سياسية حقة تمثل عقلًا عظيمًا وروحًا نبيلة”(10). بينما نجد فولتير (الفرنسي) يكتب عن مكيافيلي، في المقدمة التي نشرها لكتاب (فردريك الثاني) المناهض لمكيافيلي، ويصفه (مكيافيلي المفسد).
أما (هردر) فيكتب عن مكيافيلي في كتابه (رسائل لتقدم البشرية): “لقد اتصف مكيافيلي باستقامته وإخلاصه ودقة ملاحظته، وولائه لبلده. ويثبت في كل سطر في كتابه أنه لم يكن خائنًا لقضية الإنسانية”(11). بل وصل الأمر إلى أن “فيخته” الذي يُعدّ من أنصار أشد النظريات الأخلاقية تزمتًا، يُثني على واقعية مكيافيلي السياسي، وحاول في مقال نشره في مجلة (فيستا) سنة 1807 أن يبرئه من كل لوم أخلاقي. (وللحديث صلة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع وهوامش: الباب الرابع -الفصل الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستبداد الديمقراطي: د. عصمت سيف الدولة، مصدر سابق، المدينة العتيقة صفحة 14. (2) و (3) و (4) و (5) و (6) و (7) و (8) و (9) المصدر السابق صفحة 9 وما بعد.
(10) الدولة والأسطورة: أرنست كأسير، مصدر سابق صفحة 170.
(11) المصدر السابق صفحة 168.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ