من غير المألوف أن تحجز تذكرة طائرة وتسافر قاطعًا آلاف الأميال، لكي تدخل في عالم روايةٍ قرأتها. إلا أن هذا يصبح مختلفًا، وتتعقلن الفكرة، حين تعلم أن الكاتب التركي أورهان باموق، كما صنع في روايته (متحف البراءة) متحفًا افتراضيًّا لأشياء ارتبطت بحالة العشق التي كان يعيشها البطل، صنَعَ في الواقع المحسوس عالمًا، يشبه العالم المُتَخيَّل الذي جاء به في كتابه. كما من الممكن أن يكون قد استعار فكرته من روايته بعد أن فرغ من كتابتها، أو ربما هو عالمٌ حقيقيٌّ، جمَّع أشياءه على مدى سنوات، ومن ثم أوحت له تلك الأشياء بروايةٍ، يضع البعض بند زيارة أرضها في جدول زيارتهم مدينة إسطنبول، فلا تتعجب حينئذ أن يُحدِّثك أحدهم عن تجربة زيارته المتحف، بعد أن قرأ الكتاب.
يأسرك الفضول وأنت تقرأ حول هذا المتحف، وعن دوافع إنشائه، وعن محتوياته وطريقة تجميعها. وطيلة فصول الرواية التي صدرت بالتركية سنة 2008، وصدرت طبعتها الأولى بالعربية سنة 2016، عن دار الشروق المصرية، بترجمة المترجم السوري الراحل عبد القادر عبداللي، يُوقع الكاتب قارئه في حيرةٍ، وهو يخوض بين صفحاتها البالغة 611 صفحة؛ إذ يتبين أنه تأسَّس على تَذكارات، وأشياء لا تخطر على بالٍ، ليبدو متحفًا للخيال بكل معانيه وشططه، ولبعضٍ من جوانب الحياة اليومية في مدينة إسطنبول، في النصف الثاني من القرن العشرين، هذه المدينة التي لا تدرك أنك كنتَ تقبضُ بيديك على الخيال فيها، سوى عندما تفارقها.
وخلال حوادث العمل المبنية بحذاقة الروائي الحائز على جائزة (نوبل) للآداب، سنة 2006، نكاد نتبين أن الشخصية الرئيسية: (كمال)، ربما هو الكاتب عينه، الذي يشرَع بتأسيس “متحف البراءة” من قطعةٍ صغيرةٍ، هي المسطرة التي أعاطاها لـ (فسون) التي ستصبح حبيبته، حين كان يشرح لها دروس الرياضيات، من أجل التقدم إلى امتحان القبول للدراسة الجامعية. ثم يقصُّ علينا كيفية سير عملية تجميع القطع المستخدمة في حياة حبيبته اليومية، والتي ستصبح عماد متحفه، مستندًا إلى فكرة أن (المَتحَفيّة) تكمن خلف حقيقة أن “أصحاب المجموعات الأُوَل الحقيقيين، مؤسسي تلك المتاحف (في الغرب)، لم يفكروا في النقطة التي سيصلون إليها، عندما بدؤوا بجمع أولى أشياء مجموعاتهم”، (ص 91).
تفصيلٌ صغيرٌ تولّد بفعلِ عبارةٍ قالتها (سيبل) التي ستصبح خطيبة كمال، وينفصل عنها فيما بعد، حين أشارت إلى واجهة محلٍّ في شارع، دار الوالي، وقالت: “آ، ما أجمل هذه الحقيبة!”، (ص 15). وحين عاد في اليوم التالي ليشتريها لها، يلتقي (فسون)، قريبته البعيدة، التي ستصبح حبَّه، ومن ثم عشقه، فمصدر ألمه الذي وصل إلى ذروةٍ، استحق لعظمتها، أن يتمظهر حسيًّا في كيان المتحف. ومع الشكل التقليدي لعلاقة الحب التي تجمع كمال، الشاب الغني الذي يبلغ الثلاثين من عمره، وفسون، الفتاة الفقيرة التي تبلغ ثماني عشرة سنة، فإن علاقتهما تخرج من إطار علاقة الحب التقليدية التي تعج بها الروايات. تقليدية نراها في قصة فقدانه إياها، ومن ثم إيجادها، بعد فترة من عذاب العشق الذي أنهك جسده وروحه، وقد تزوجت من جارها الذي كان يحبها منذ أيام الطفولة، وسكنت وإياه مع أهلها في أحد أحياء إسطنبول الفقيرة. حيث يكسر الهوى الذي استبد بكمال هذه التقليدية، ليكون تردده شبه اليومي، على مدى ثماني سنوات، إلى منزل عائلتها و”الجلوس” معها ومع العائلة، وسرقة بعض مقتنياتها ومقتنيات البيت، هي طريقته لعلاج الهوى الذي يظهر أنه دافعه الرئيس في نشاطه الحياتي. وكان تعبير “الجلوس” مستخدمًا على نطاق واسع في تركيا، ويعني تمضية الوقت مع أحد ما أو عائلة ما.
وكالجِرار ينضحُ من الرواية بُعدٌ فيها، هو بُعدٌ مخفيٌّ وظاهرٌ في آنٍ واحدٍ. إنه الحب الصافي الذي يتفجَّر من كل بقعةٍ ركَّز الكاتب مصباح كلماته عليها. والحب الصافي هنا هو حبٌّ حقيقيٌّ، يعتمل في قلب كمال ويرى في ضوئه كل ما أرانا إيّاه. ربما هو الحب الذي جعل كل عوالم روايته تنسكب في آنيةٍ واحدةٍ، فتفيض منها لتجري، من بعدها، في جدولٍ خطَّته قوتها. ويكبر الجدول ليصبح تيّارًا واحدًا عميقًا وواسعًا، نسبح وبقية الشخصيات فيه. وبالحبِّ الذي سُبكت فيه جغرافيا هذا العمل، متولِّدةً من تفصيلٍ صغيرٍ، ومن ثمّ تنطلق كل الأماكن والشخوص والأزمنة، لتتوالد وتكبر وترتقي أعلى فأعلى، حتى يصبح هذا الحب كائنًا، أعضاؤه الشوارع والمارة ومداخل البيوت وجدرانها والأرائك فيها والجالسون عليها وأعقاب سجائرهم، تظهر قدرة السرد الملفتة لدى الكاتب. السرد الذي كان الحب محركه، ليسير بنا في شوارع إسطنبول وبحرها وبعض من جوانب حياتها السياسية، في السبعينيات، وملامسته آثار الانقلابات العسكرية التي حدثت فيها، خلال تلك الفترة.
ثم يطغى في السرد، أحيانًا، جانبٌ، سماه الكاتب “التحديث والحضارة” الذي كان دافع الإسطنبوليين لتغيير نمط حياتهم والتشبُّه بالأوربيين وتوجههم لتقبل أفكارهم، وخوضهم في المحرمات، مثل فكرة البكارة وأهميتها، وأثر ممارسة الجنس قبل الزواج على الحياة الزوجية. ثم تأتي فرصة السرد الذهبية، لتَظْهَر وتُظهِر أثره في بناء الرواية في فصولٍ عديدة، منها فصل “الزمن“، (ص 320)، على سبيل المثال، وفصل “أحيانًا“، (ص 453). حين يأتي في الأول على تفاصيل أمورٍ تتعلق بالوقت والساعات والقديم منها، وفي الثاني يستخدم كلمة “أحيانًا” أكثر من 130 مرة في سبع صفحات، للحديث عن طريقة تمضية الوقت في منزل أهل (فسون)، من دون أن يصيبك بالضجر، لا بل يجعلك تصاب بالدهشة، وهي الدهشة التي تُجبرك على عدم إفلات الكتاب من يديك، إلا قد أتيت على كل صفحاته.
ولكي يأسرنا الكاتب أكثر، يجعل الحب ظاهرًا ساطعًا وخفيًّا في وقتٍ واحدٍ. يظهره ساطعًا في علاقة كمال بالصبية (فسون)، ويَتبدَّى وهو خَفيٌّ في المحيط الذي نراه من خلال عينيهما، ومن خلال الجميع الذين يَهجسِون بولعه بها. ومن هنا تأتي قوة موضوع الحب ووحدته، فيبدو كائنًا طاغيًا على الجو فيها، وجامعًا الذي يجعل البناء الفني يتكامل، على الرغم من تنوع عوالم الرواية والأماكن فيها والشخوص التي لا نرى وظيفة لها سوى خدمة موضوع الحب، ومن بعده العشق فالفقد وألمه.
هل يا ترى هذا الحب، المتبدِّي في كل تفصيلٍ، هو ما يدفع القارئ لكي يزور المتحف؟ ربما يريد هذا الزائر أن يتشبَّع منه من خلال الواقع المحسوس، بأكثر مما تشبَّع به من الخيال الروائي المجرد. حبٌّ فطريٌّ تجبرك الرواية أن تدركه، سواء أكان مغادرًا إياك أم مقيمًا فيك. نتبين ذلك حين قال كمال لـ (فسون) مُوصِّفًا علاقتهما بـ: “عدم وجود أي علاقة مصلحة أو عمل بيننا، وعيشنا المشاعر الإنسانية الأكثر براءة وأساسية بصدقٍ لا يترك مجالًا للكذب أو اللف والدوران”، (ص 69).
وكان أن دخل الحب مسربًا آخر، للتعويض عن شكله المشتهى، عبر ابتداع كمال حلٍّ ذكيٍّ يمكِّنه من البقاء قرب (فسون)، للتغلُّب على ألم افتراقها عنه. فقد واظب على التَّردُّد إلى بيت أهل (فسون)، حيث تقطن هي وزوجها مع أهلها، على مدى السنوات الثَّماني، مدفوعًا باعتقاد خاص به يقول بأن: “السعادة هي القرب من الحبيب فقط”، (ص 294). وتقبَّلت فسون وأهلها زياراته المسائية، كونه قريب العائلة. كما تقبَّل زوجها: فريدون، دخوله المنزل بتواتر شبه يوميٍّ، مدفوعًا بأمل أنه سينتج له الفيلم الذي حلم بإخراجه. لكن عدم اقتناع كمال بالسيناريو الذي وقع فريدون فيه بالأخطاء التي لطالما انتقدها هو ذاته، ومن بينها “التقليد والتصنُّع والأخلاقية والتجارية والفظاظة والميلودرامية والشعبية”. وقد ردَّ كمال سبب هذه الأخطاء إلى أنَّ “مرض هَوَس الفن مرضٌ مثل العشق يعمي بصيرتنا، وينسينا ما نعرفه، ويخفي عنا الحقائق”، (ص 343)، مما جعل كمال يماطل في إنتاج الفيلم، على الرغم من تأسيس شركة إنتاج لهذا الغرض.
من جهة أخرى، أقرَّ الكاتب بهدفه: “أليس هدفنا من الرواية والمتحف أن نروي ذكرياتنا بصدقٍ، وجعل سعادتنا كأنها سعادة الآخرين؟”، (ص 386). ولهذا ثابر على تجميع كل قطعة تتعلق بـ (فسون)؛ كل ما لمسته يداها أو وقع نظرها عليه في بيت والدها، وقبل ذلك في البيت الذي كانا يختليان فيه قبل غيابها، أو خلال خروجهما مع العائلة وزوجها إلى الغداء، أو إلى السينما، ومنها، على سبيل المثال، عدد 4213 سيجارة، كانت قد دخَّنتها خلال كل تلك الفترة، وكان يختلسها من المنافض. ويخبرنا الكاتب عن كيفية تجميعه كل ما يقع تحت يده من أشياء تخصها، حيث يضعها في جيبه خلسةً، ثم يجلب بدائل لها أو يترك مبلغًا من المال مكانها، ويتكلَّم عن أثر ذلك لديه: “كانت تلك سعادة اقتطاع قطعةٍ ولو صغيرةٍ من التي أحببتُها بشغفٍ، ولكنني لم أستطع الحصول عليها”، (ص 425).
وصل كمال إلى فكرة إقامة المتحف، بعد وفاة (فسون) على إثر حادثِ سيرٍ في سيارته التي كانت تقودها وهو إلى جانبها، الحادث الذي ظنَّ أنها تعمَّدته، لأنه لم ينتبه إلى القرط الذي في أذنها. ودافعه المباشر لإقامته كونها بدأت: “تتحول تدريجيًا إلى خيالٍ يتعلق بالماضي والذكريات. كان هذا محزنًا جدًّا، ولا يعني الألم من أجلها والرغبة فيها، بل يعني الألم على نفسي”، (ص 556). ومن هذه النقطة كانت انطلاقة الفكرة، يقول في الصفحة 557: “وصلتُ إلى فكرة المتحف في نقطة ما بين التفكير والتذكُّر، وما بين ألم الفقدان ومعنى الفقدان”. وتدعيمًا لفكرته هذه، يُردِف فيقول: “أشعر بأن ألمي سيخفُّ، لو أني قصصتُ قصتي. لهذا السبب يجب أن أُخرِج مجموعتي إلى العلن”، (ص 557).
ومن أجل تشييد متحفه، جالَ كمال على مئات المتاحف في أوروبا وحول العالم، وأغلبها منزلية وشخصية وأخرى عن الحياة اليومية، إضافة إلى تلك المخصصة للفن الحديث. واكتشف أن مجموعته أغنى مما يُعرض في بعض المتاحف، وتَبدَّلَ لديه الشعور تجاه ذاته ومجموعته: “كنت أتحوَّل تدريجيًّا من جامع أشياء يخجل مما جمعه، إلى صاحب مجموعةٍ يشعر بالفخر”، (ص 563). وفي الفصل الأخير من العمل، يختم كلامه حول الفكرة ليقول: “متحف البراءة قبل كل شيء فكرة حول العشق”. وفي عملية إعداده، يقول الراوي إن معماريًّا ساعده في تجهيز منزل عائلة (فسون) القديم وتحويله إلى متحف، بعد أن اشتراه من والدتها وساعدها في شراء منزل في منطقة أفضل منها.
ومع العلم أنها صدرت سنة 2008، وافتتح الكاتب متحفه سنة 2012، مطلقًا عليه التسمية ذاتها: “متحف البراءة“، فإنه بهذه الواقعة يزيد من حيرتنا حول أي منهما، أو فكرتيهما على الأقل، كانت الأولى، الرواية أم المتحف؟ وتتكرس تلك الحيرة حين يجعل صفحات كتابه تعج بجملٍ من قبيل: الغرض “الذي أعرضه هنا”، والغرض “الذي ترونه هنا”، وفلان “الذي سيتذكر زوّار من المتحف صورته المعروضة هناك”، و “فيما بعد بكثير، رأيت بعض مشاهد السعادة في حلمي. أُقدِّم هنا للزوار هذه المشاهد”. وفي النهاية، يصل بنا إلى حلٍّ لهذه المعضلة، حين يقول: “ستكون الرواية بمثابة دليل الزائر”.
هذه الوقائع، وتلك الحيرة، وربما الدهشة، لا بد أن تدفع القارئ إلى زيارة المتحف للوقوف على أرض الرواية. وحيث إن الأمور تسير فعليًّا على هذه الشاكلة، فهذا دليل على أثر الأدب، ودليل -أيضًا- على أثر هذا الكاتب الذي أغنى المكتبة التركية؛ ما دفع الكاتب والمترجم السوري الراحل عبد القادر عبداللي إلى ترجمة معظم أعماله، وإغناء المكتبة العربية بأدب باموق الذي استحق عليه جائزة نوبل، واستحسان القراء، في أكثر من ثلاثين دولة حول العالم.