مقالات الرأي

شروط الثورة السورية والعالم

 

لا يستوي النقاش السوري على أرض صلبة، ما لم ينطلق على الأقل منذ 2011؛ ففي ذلك العام حدث قطع ثوري في تاريخنا، يمكن مقارنته بلحظة الاستقلال عن العثمانيين أو الفرنسيين. في 2011، تأسس لأول مرة دور شعبي يريد نزع السلطة وتشكليها ديمقراطيًا. لا شك أن الثورة كانت نتيجة سياسات عولمية تبناها النظام، للخروج من أزمته، فعمم ليبرالية اقتصادية فظة، وحصل نهب كبير للثروة، واتخذ الأمر شكلًا احتكاريًا، لفئات صاعدة تدور في فلك السلطة الجديدة المشكّلة عام 2000، من أبناء السلطة القديمة؛ وقد تسبب ذلك بانهيار الزراعة وبقايا الصناعة التابعة للدولة، وتوسع قائمة العاطلين عن العمل. المشكلة أن كل ذلك تمّ في سياق احتكار السياسة، في إطار السيطرة الأمنية الكاملة على المجتمع، فلم تترافق اللبرلة مع الحريات السياسية، وغاب كل شكل للمشاركة السياسية والنقابية، وقُمِعَ حينذاك ما سُميَ “ربيع دمشق”، وبالتالي؛ لم يُسمح للشعب بتعلم أشكال مؤسساتية لإدارة شؤون حياته وصياغة برامج سياسية واقتصادية واجتماعية، تحقق مصالحه.

في 2011، تفجرت الثورة الشعبية، وجاءت صدًى للثورات العربية. القوة الشعبية العربية هذه شحذت السوريين لإطلاق ثورتهم، وهذا ما سمح بتمدد الثورة سريعًا في كل سورية؛ فلم تخلو مدينة من احتجاج ثوري صغير أو كبير مناهض للنظام، ومطالب بتغيير عميق في السلطة والدولة.

الثورة السورية التي اندلعت، بشروط سياسية نابذة للسياسة، لم تقرأ جيدًا طبيعة النظام ولا السياسة العالمية، وبالتالي؛ لم تستطع تحديد رؤية معرفية وسياسية دقيقة لآلية تطورها، أو لحالة العالم الرأسمالي وبزوغ الروس والصين عالميًا، وتراجع الأميركيين وهامشية أوروبا في الساحة العالمية. إذًا؛ انطلقت الثورة، وهي لا تعي ذاتها كثورة على أزمة محلية اقتصادية، هي جزء من أزمة الرأسمالية العالمية من 2008.

هناك شروط سياسية كارثية أمام الثورات العربية، ولا سيما في سورية، حيث إنها جاءت في مرحلة تراجع الاشتراكية عالميًا، وصعود أيديولوجي ليبرالي كاسح، وصعود يميني عنصري في العالم، ولا أقصد هنا فقط تقدم الأحزاب اليمينية في أوروبا، بل رؤية كل من بوتين وترامب مثلًا للعالم أيضًا، وبالتالي؛ تراجع دور المؤسسات الدولية، كمجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة وسواها، عن دورها في حماية السلم العالمي ومنع الفوضى والتخفيف من الأزمات، وهو ما لم يتحقق لا في أفغانستان ولا العراق ولا راوندا ولا السودان، وكذلك لم يتحقق في سورية. الأنكى تبني أميركا وأوروبا خاصة سياسات عالمية تخص محاربة الإرهاب، وتطابق الأخير مع الإسلام، في كثير من الحالات.

هي ثورات ترفضها مراكز الرأسمال العالمي، وليس من دعم دولي لها. ولو أنها وعَت ذاتها؛ لناهضت العالم الرأسمالي ذاته أيضًا، وليس النظام وحده، ولربما سمح هذا بتصاعد ثوري عالمي؛ فالتفاعل الذي حدث بين الثورات العربية والحركة اليسارية، في اليونان وإسبانيا، كان يمكن أن يقوى أكثر لو وعت الثورات العربية ذاتها، كثورات شعبية ووطنية، وتبنت برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية واضحة، وهو ما لم يتحقق.

عدم وعي الثورات ذاتها، وتفجرها كردة فعل ضد أنظمة إفقارية وأمنية بامتياز، في سياق الانفجارات الشعبية ضد الأنظمة، سمح للمعارضة “التاريخية الليبرالية” بالتقدم لقيادتها؛ فهي من دفع الأثمان الكبيرة في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، وبالتالي ساهمت مظلوميتهم تلك في مصادرة الثورات، وكان أكثر من لعب على هذه الورقة أحزاب “الإخوان المسلمين” في الدول العربية، الذين وجدوا “تحالفًا” من أميركا وتركيا وقطر خاصة، إذ كانت القيادة الأوبامية تريد التحالف مع حركة الإخوان لتخريب الثورات الشعبية، وصدها بالإسلام السياسي “المعتدل”.

النظام السوري الذي يعي جيدًا الأزمة الاقتصادية العالمية، وبروز اليمين وتراجع اليسار عالميًا، وحركة “الإخوان المسلمين” المخفقة في ثمانينيات القرن الماضي، أراد تخريب الثورة. النظام دفعها سريعًا نحو التسليح والأسلمة، وطيّفَ المجتمع السوري، والإخوان خاصة ذهبوا المذهب ذاته؛ الأسوأ أن قوى “المجلس الوطني السوري”، ولاحقًا “الائتلاف الوطني” تحالفوا مع الإخوان في كل سياساتهم. وبسبب قوة الثورة؛ اضطر النظام إلى طلب التدخل الخارجي، وكان له ذلك، ولكن طلب المعارضة لذلك لم يُلبّ، وهذا ما سمح للنظام بالبقاء ومنع سقوطه أكثر من مرة.

وبتوسع الثورة في كل المدن السورية، وبتطور الممارسات القمعية للنظام، وبتعاظم الثورة المسلحة ودخول السلفيين والجهاديين فيها؛ أصبح العالم بأكمله يصطف إلى جانب النظام في المعركة ضد “الإرهاب”، فتشكل التحالف الدولي ضد (داعش) 2014، وصمت العالم عن كل ممارسات النظام، حتى الكيمياوي عبر الصفقة الشهيرة 2013، وتدخلت روسيا تحت يافطة السبب ذاته، وما زالت تتذرع به إلى لحظتنا الراهنة.

أخطأت الثورة بصمتها عن مصادري قيادتها من المعارضة، وأخطأت بصمتها عن حركة “الإخوان المسلمين”، على الرغم من رفضها لهم في 2011: “لا سلفية ولا إخوان”. المعارضة التي سحقها النظام لعقود عديدة، أرادت الانتقام، وحددت آلية عملها بطلب التدخل الخارجي، وتوهمت ذلك قياسًا على المعارضة العراقية والليبية. المعارضة هذه لم تقرأ طبيعة النظام ذاته، ولا طبيعة العالم، والذي ليس من مصلحته نجاح ثورات مناهضة لسياساته العالمية بالأصل. عمّمت المعارضة قلة فهمها على الثورة، وبدلًا من أن تتشكل نظرية للثورة، واستراتيجية ثورية، لكل أشكالها السياسية والعسكرية والإغاثية والاحتجاجية، عانت الثورة من فوضى عارمة، وخُرِبتِ من قبل النظام والدول الإقليمية والعالمية، بحركات جهادية وسلفية كـ (النصرة، وجيش الإسلام، وداعش، وأحرار الشام..) وسواهم كثير. وبدلًا من رفض هذه الحركات رفضًا قاطعًا، تم التعامل معها كأمر واقع، باعتبار أن الخطر الأكبر يتمثل في النظام بالتحديد. نعم لم يتمّ التنبه إلى خطورة الإخوان أولًا، والجهادية والسلفية ثانيًا، والأنكى من ذلك أن قيادات في المعارضة تبنتها، كما جرى مع حركة “النصرة” بالتحديد، وباستثناء (داعش)، فقد كانت آراء المعارضة مشجعة للحركات السابقة. العالم المصاب بفوبيا الإرهاب “السني”، منذ هجمات أيلول 2001، لا يمكنه النظر إلى الحركات المتأسلمة هذه إلا كأعداء، وهي ذاتها سهلت للنظام ممارسة أقصى أشكال العنف.

الثورة الشعبية السورية تعرضت للسرقة والمصادرة. والمعارضة: “المجلس الوطني، والائتلاف، وهيئة التفاوض”، هي من فعلت ذلك، والنظام سحقها، ولَعِبَ بها حتى تأسلمت. الثورة الشعبية السورية -كما العربية- ما زالت شروطها قائمة، أي الإفقار العالمي والمحلي والسلطات الأمنية، ويضاف إلى ذلك -في حالة سورية- الاحتلالات.

إذًا؛ ما حدث من قطع ثوري 2011 لن ينتهي، قبل تغيير أسباب حدوثه.

مقالات ذات صلة

إغلاق