تحقيقات وتقارير سياسية

الأسد المسيطر، لا المنتصر

 

تفرض وطأة الأحداث الأخيرة والمتسارعة على جبهة الثورة السورية، أن نقف وقفة تأمل ومحاسبة، متفاعلين مع بُعد إخضاع جزء مهم من الغوطة الشرقية لقوات النظام السوري، وفرض جملة من الإملاءات والشروط على سكانها، تبدأ بالإذلال، وتنتهي بمراكز اعتقال جماعية وتهجير. وهذه هي سمة كل المناطق التي خضعت لوحشية الحصار والنابالم والسارين والخردل والقصف الهمجي في عموم سورية، من قبل موسكو ونظام الأسد وعصاباته الإيرانية وغيرها. أحد الأبعاد الأساسية في صنع انعطاف مسيرة الثورة السورية أن نصل إلى أفكار محددة ينطلق منها السوريون في نضالهم، وتكون هدى في مسيرة الثورة المستمرة على الطاغية.

أهم الحقائق التي تبدو بارزة على مسرح الأحداث السورية، أن الصراع مع طاغية السوريين مستمر ومحتدم، بعد سيل لا يتوقف من مجازر وجرائم تفوق كل أسباب اندلاع الثورة السورية قبل سبعة أعوام، وتتفوق على خمسة عقود من القهر والاستبداد، بملايين الجرائم التي ارتكبها الأسد، وأن نضال السوريين ومواجهتهم فاشيته سيتصاعد، ليس على قاعدة البطش العسكري الذي أراده الطاغية ميدانًا للسوريين، بل ستحكم هذه الحقيقة بشقيها مجرى الأحداث في ساحة الصراع مع السوريين، وفي المنطقة والعالم الذي مد جسور النفاق والتدليس للنظام، على أمل القضاء على ثورة شعبه.

يمكننا على ضوء هذه الحقيقة، وضمن وقفة التأمل والمراجعة المطلوبة لمسيرة الثورة التي ظن كثيرون أنها تمتلك قوة عسكرية ستهزم قوة نووية، مع أن السلاح الأمضى الذي يمتلكه السوريون، والذي لم ولن ينضب، هو إرادتهم التي حطمت أسطورة الأسد وأبدهِ المزيف. مجموعة الأفكار التي تستحق منا عناية فائقة، وفهمًا عميق الامتثال لبعضها والسير على هداها، يمكنها أن تساعد في بلوغ الشعب السوري لأهدافه، منها ما يتعلق بمفهوم العمل العسكري والثوري، الذي أجبِرت الثورة على خوضه، ومن ثم تمّ الاستيلاء على شعاراته ووظيفته المرتهنة لغرف إقليمية ودولية، أفرزت نتائج استيلاء الأسد مجددًا على مناطق عديدة، حتى أيقنّا أن العملية التبادلية لبعض الأعمال العسكرية متفق عليها، كما هي حال وظيفة (داعش) مع النظام، وبعض الفصائل الأخرى المرتبطة بأجندات إقليمية.

عدم تكوين مفهوم واضح ومحدد وشامل، للفصائل العسكرية المتناحرة فيما بينها، والمسترخية النظر إلى جرائم النظام، يدفعنا إلى إعادة التأكيد أن السوريين لم يكن في حسابهم، لا في الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، خوض غمار تجربة العمل العسكري، إنما عملية الرد على فاشية ووحشية الأسد في بعض الظروف حملت على تبني خيارات مؤلمة وباهظة، استخدم الأسد فاشيته وعصاباته لتضخيمها، وإذا كانت الثورة “رفض أمر واقع مفروض”؛ فإن هذا الرفض بات مجسدًا في عموم سورية، ومتصاعدًا أكثر من أي وقت مضى، ومع الأسباب والظروف والنتائج الكارثية لإعادة استيلاء الأسد؛ تتعاظم أسباب الثورة على النظام مجددًا. لقد سبب عدم وضوح أفكار وأجندة الفصائل العسكرية، معاناة شديدة وتعثرًا كبيرًا لكثير من السوريين الذين خاضوا غمار النضال السياسي والمدني ضد الطاغية.

الثورة السورية، بالنظرة الشاملة إليها، لم تعتمد الخيار العسكري، بل اعتمدت رد العدوان عنها والتصدي للفاشية والمحرقة التي حاول النظام وحلفاؤه صبغ المجتمع الثائر بها. تكفي الشهادات وملايين الصور والوثائق والأفلام وملايين النازحين والمعذبين، لتقديم أصغر دليل فيها يفيد بجرمية ووحشية الأسد وعصاباته، لكن التوازن المطلوب لعدالة السوريين من المجتمع الدولي هو المفقود في معادلة الثورة، وهنا تبرز قدرة الوظيفة والدور المنوط بالعصابة الحاكمة في دمشق. غياب إرادة الفعل عن تقديم الدعم للشعب السوري هي التي دفعت عجلة وحشية النظام وحلفائه إلى التضخم، والقدرة على الفعل بالنهاية هي مقياسٌ أساسٌ للشعارات المتصلة بحقوق الإنسان وحريته، وكلها سقطت في امتحان الثورة السورية.

يجب الإقرار، مع الأسف، بأن وحشية السارين والخردل والنابالم والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير، تُعيد فاشي السوريين إلى السيطرة مجددًا على بقع جغرافية متراكمة بعضها فوق بعض، لكنها لن تمنحه أي “نصر”. يدرك الأسد الصغير أن معركته هي مع ذاك الجيل النازح والموحل والمعذب في طرق الإذلال، ويدرك أيضًا أن لا “سندويشة الفلافل ولا عبوة الماء” قادرتان على اصطناع نصر وولاء موهوم، الأسد يستعيد زمام الفاشية؟ نعم. لكنه لن ينتصر أبدًا، هي مرحلة من مراحل الثورة.

مقالات ذات صلة

إغلاق