ينجز فادي عزام، في روايته الثانية (بيت حُدُد) الصادرة عن دار الآداب للنشر والتوزيع عام 2017، ترتيبًا أبجديا لشظايا البلاد المتكسرة، ثم يستغرق عبرَ شخوصه في تفقد التراجيديا السورية، بكل التباساتها وانغماسها في لذة العدم الطارئ، فهو بذلك يخرج عن سطوة الحبكة الجغرافية الضيقة التي التصقت بروايته الأولى (سَرمَده) الصادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع عام 2011.
في (بيت حُدد) يوشك الحب أن يقف على مشارف الهزيمة، لكنه ينهمر كمطرٍ شفيف، سرعان ما يتدخل بعاطفةٍ جليلة تعيد الماءَ إلى جسد النهر، وتبطل لعبة الموت في قفار الصراعات الكبرى. فتاريخ البيت، يصير ذريعةً لاستعراض جوانبٍ مبهرة من تاريخ سورية، قبل أن يولمَها زمن البعث إلى العتمة، وطوفان الحب يعيد تعريفَ الأكسجين مجددًا في بلادٍ صار السواد توأمها، إذ إن الذكور لدى عزام هم كباش فداء داخل معادلة الحب الكبرى، يموت فيديل، والدكتور أنيس، وتنجو ليل، وسامية. وكأن الرجل لا يكون هنا إلا قاتلًا أو قتيلًا، وكأن المرأة تتجاوز برحمها فكرة الفناء، وعطالة الموت الأبدية، إذ تلد ليل صبيا من فيديل وتسميه على اسمه، وينجح عيسى في إخراج أولاد سامية من سورية، ويسلمهم سالمين إلى شاطئ اليونان.
يعيد عزام رصد الرموز والمعاني النفسية، من حيث تنبت وتستقيم، وإن كان قد لجأ إلى تكنيك سردٍ بسيط، لم يجازف فيه برواةٍ كثر، بل كان الراوي الوحيد، حيث يظهر أيضًا كشارحٍ لتاريخ البلاد السياسي من حيث توقف، نقرأ في الصفحة 159: (خرجت أول مظاهرة نسائية في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، من جامع الأقصاب في ساروجا. تم إلقاء القبض على إحدى عشرة سيدة، وقدمن إلى المحاكمة، بتهمة المشاغبة وإقلاق الراحة العامة، والتحريض على الثورة والعصيان). ثمة سردٌ يتسع حول دوائر الشخصيات، ولعل فكرة العودة إلى سورية المنكوبة بدت فكرةً ملحة تدخلت في بناء الحبكة من الناحية التقنية، حيث يعود فيديل مخرج الإعلانات المشهور، والمقيم في دبي إلى دمشق لينجر حملة إعلانية لمستشفى “سما الشام”، كما يعود الدكتور أنيس جراح القلب الذي يعيش ويعمل في لندن، إلى دمشق ليبيع بيت حدد ميراثه من خاله بدر الدين.
يختار الكاتب أن يبني حبكته على تعاقبٍ رشيق للسرد يقوده كل من فيديل، والدكتور أنيس، حيث يسرد لنا سيرة حياة بطله فيديل المورط بتناقضات قدرية، أخذ يتنفسها منذ نشأته داخل أسرةٍ غير متجانسة، حيث الأب الشيوعي، والأم المتدينة. من هنا تأسست ورطة البطل، وصار بشخصيتين، فضل المتدين بفضل أخواله، وفيديل العبثي في تقصيه الدائم لمشروع الحياة المنهك. يعيدنا السرد إلى حبه الأول من الشيوعية رويدة الشاعر، وملاحقة الأمن له، قبل هروبه إلى لندن، ثم زواجه من هيلين، المرأة النبيلة، وما تخلله من انقلابات عصفت بحياة شخصيتين سكنتا جسدًا واحدًا. في حين يكتفي السرد بمتابعة خطوات الدكتور أنيس بعد عودته إلى دمشق، يتفقد أصدقاءه، ويطل معهم على ذكرياته البعيدة في مكانٍ لم يتغير كثيرًا منذ تركه قبل ربع قرن، نقرأ في الصفحة 43: (هاله اتساخ الأعلام المرفوعة، حين وصل إلى ساحة البرامكة قبل الانعطاف إلى جسر الرئيس، وهاله أيضًا الوجه المهشر والمقشر للأبنية الهرمة، والجدران الملوثة بالشعارات نفسها الممجوجة والمتآكلة. يبدو أن أصحابها لم يعد لديهم الاهتمام للاعتناء بها، فالعبارة التي ما زال يتذكرها حين غادر “لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية، من أقوال الرفيق المناضل حافظ الأسد”، بدت كأنها تعرضت لعوامل الحت والتعرية، فتلاشى الجزء الثاني منها، فبدت الآن كأنها أصدق: “لا حياة في هذا القطر. حافظ الأسد”، يجعل الاعتياد الناس لا ينتبهون كيف يتآكل الثبات، مهما بلغ من سطوة الحضور).
في دمشق، ينبت الحب ويزهر، وتستقيم دروبه. تخوضه شخوص عزام حتى الغرق، تمتلئ به، وتتطور. حيث تتهشم الملامح المسطحة لشخصية الدكتور أنيس، بعد انغماسه في حب سامية المحامية، والناشطة المعارضة. في حين يهدأ عصف العبث داخل فيديل، بعدما اكتشف سطوة الدكتورة ليل عليه. لقد أوصلت الحبكة شخصيات السرد الرئيسية إلى دمشق بعد انتفاضة الناس، وبداية التظاهرات، وهذا حدث مفصلي آخر ساسَ الحبكة، ورتب للشخصيات خياراتٍ جديدة لم تكن في الحسبان، حيث يعزف الدكتور أنيس عن بيع البيت التاريخي، ويلحق بخطوات سامية إلى الغوطة، وتكتشف الدكتورة ليل بذاءة الحياة في بلدٍ خَربْ، أتلفته طغمة السلطة والمال. يورطها فيديل عن غير قصد بفضيحةٍ مدوية، فتلحق به مع عائلتها إلى دبي، ليكتشفا معًا سلطة الحب المطلقة عليهما، ويعيدان تعريفه من جديد.
يعرض الكاتب الحب، كتجربة استثنائية ومتطرفة، وكذلك الاعتقال، في بلادٍ أبحرت باتجاه الخراب والدم بلا رجعة. حيث يعيش الدكتور أنيس تجربة الاعتقال، ويعيش فيديل اعتقالًا اختياريًا، كمخرج إعلاناتٍ لتنظيم (داعش)، بعدما عاد إلى سورية لينجز توثيقًا عن مسيرة الحراك والموت. ثمة إيقاعٌ غير مرئي يجعل من السرد عملًا شيقًا، فالحياة التي أمضاها الدكتور أنيس في “المركز الثقافي”، تشبه في انعطافاتها الداخلية القاسية تلك التي أمضاها فيديل لدى تنظيم (داعش)، إذ يتحول الدكتور أنيس من جراح قلب، إلى جزارٍ يبقر الصدور بمبضعه، ويستخرج القلوب ليبيعها القائمون على “المركز” كأعضاءٍ بشرية، يتذوق اللحم البشري هناك، في التقاطٍ موفق لبعض ملامح الواقعية السحرية في السرد. فيما تبدع مخيلة فيديل في تسويق صور الإعدامات التي يمارسها “تنظيم الدولة الإسلامية” على ضحاياه.
ينشغل السرد كثيرًا في رصد مكونات الواقع، ويصير هذا الانشغال هاجسًا بانوراميا واسع الامتداد، ومتعدد الوجهات في آن، من التظاهرات ضد النظام، إلى تفاصيل الاعتقال، وحياة المعتقل، ثم شغف أصحاب السلطة بابتلاع البلد، وصولًا إلى الرصاص، وصوت الموت، والتعارك الأيديولوجي بين الفصائل المتحاربة على الأرض، نقرأ في الصفحة 400 – 401 بعد إعدام تنظيم (داعش) لبعض شباب الثورة السلمية: (نحن الستة لم نكن نصدق ما نرى. كيف يدعي هؤلاء الغرباء أنهم جاؤوا لنصرة الشعب السوري، ويقتلون من قام بالثورة أو شارك فيها مخلصًا!! كنا نظن أننا نحن الجَهَلة من سيحكم علينا لأننا لم نشارك، فأخذونا إلى مهجع آخر)، ثم نقرأ في الصفحة 422 – 423 تكثيفًا لفلسفة تنظيم (داعش)، على لسان غسان صديق فيديل القديم حين كان شيخ جامع لندن، وصار أحد أمراء “الدولة الإسلامية”: (مهمتنا اليوم هي تعلم فنون الإدارة والاقتصاد والإعلام، والوصول إلى التمكين والتمكن لا يتم نظريًا، إنما بالتدريب العملي. نحن نستفيد اليوم من تناقضات الواقع. فبعد النزف الكبير للمجاهدين نقوم بالتعويض أضعافًا مضاعفة. اختيار النخبة، إعادة تأهيل الخلايا، حركة هائلة لزراعة الفكر والعقيدة في العقول والقلوب).
يختار أبطال عزام المنفى كبديلٍ لبلاء الظلم في سورية، ثم يعودون وكأنهم يستسلمون لوشائجٍ قدرية لا يرونها، لكنها تشدهم إلى لجة المكان البائر، ووحده الحب من يستطيع تلقيح الموت، والظلم، ووحدها الولادة من تستطيع انتشال الفناء من قاع بئره. يصلون إلى سورية، وكأنهم يقلدون ثقافة السلمون، نموت حيث ننبت.