الثورة باقية في وجدان السوريين، وجذوتها لم تمت، ولن تموت، ما دام الإنسان السوري يطمح إلى التحرر من تسلط فئة مجرمة، أظهرت الأيام والسنوات الأخيرة أنها عصابة دولية بامتياز، يشكل بقاؤها قضية جوهرية، بل استراتيجية لكثير من القوى الدولية والإقليمية.
ما حدث خلال سبع سنوات شيء مؤلم. ولكن كيف نتعامل مع ذلك؟
هل نجلس ونبكي على أنقاض سورية التي حصلت نتيجة قصف الطائرات الأسدية والروسية والأميركية؟ هل نتابع العيش في الأوهام، التي اقترنت بعدم فهم السياسات الدولية والصراعات الجيوسياسية والجيواستراتيجية، والتي رسمت منذ بداية الثورة مسارًا لمآلاتها، بينما كنا نفكر كما نريد لا كما تجري الأمور واقعيًا وموضوعيًا.
كنت واحدًا من السوريين الذين هللوا لـ “الجيش السوري الحر”، وما زلت أفتخر بذلك؛ لأنه كان ضرورة وحتمية. فالجيش السوري الحر دافع عن السوريين، وكان معتدلًا بتوجهاته ووطنيًا بأهدافه وشعاراته، ورايته هي راية الاستقلال السوري التي يعتز بها السوريون. ولكن لنتذكر كيف تم القضاء على “الجيش السوري الحر”، وإنشاء تنظيمات عسكرية إسلامية ترفع رايات سوداء وخضراء وبيضاء. عندها تم القضاء على الجيش الحر الوطني المعتدل، وتمت عسكرة الثورة برايات إسلامية متطرفة: سلفية وصوفية وجهادية وداعشية، عندها تم حسم مصير الثورة لصالح الثورة المضادة.
أغلب التنظيمات المسلحة التي اعتبرت نفسها معارضة للنظام ارتكبت جرائم بحق المدنيين، لأنها ضغطت عليهم وقمعتهم، بل اعتقلت العشرات وحاربت المجتمع المدني، والغوطة خير مثال: الناشطة المدنية والمدافعة عن حقوق الإنسان رزان زيتونة اختفت مع زملائها في الغوطة، حيث يسيطر “جيش الإسلام”، الذي يدعي أنه يحمي الثورة والمدنيين. ويكفي القول إن السوريين يخافون الدخول إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الفصائل الإسلامية المسلحة. بينما كانوا سابقًا يدخلون إلى سورية، وإن لم يكن لهم علاقة بالسياسة، فلا أحد يتعرض لهم.
قال لي ناشط من الغوطة مرة: في عهد النظام، لم يكن هناك حرية، واليوم في عهد الفصائل المسلحة لا توجد حرية ولا أمان.
مصيبة كبرى حلت بالسوريين، حيث تم قلب الثورة السلمية الشعبية التي تعاطفت معها الدنيا، إلى ثورة مسلحة إسلامية وحرب طائفية طاحنة.
ولكن هل المسؤول عما حدث هو مؤامرة كونية، كما يقول بشار الأسد، أم أن هناك أسبابًا أخرى؟
أعتقد أن فشل الثورة يعود لأسباب موضوعية وذاتية.
فالأسباب الموضوعية هي تخاذل دولي واضح، تقف وراءه “إسرائيل” وأميركا، فهم من سمح لروسيا ولإيران بالتدخل بشكل سافر لحماية نظام الأسد، وقد يكون لتوريطهم. وكذلك الدول الإقليمية، التي تغيّرت أدوارها من متحمسة للثورة إلى صامتة أمام قتل الثورة، هي من ساهمت بتفتيت قوى المعارضة والثورة، وتتحمل مسؤولية أكبر عن فشل الثورة. فهم من صنع ودعم الفصائل المسلحة الإسلامية التي تتقاتل فيما بينها، وترفع رايات سوداء مختلفة كليًا عن راية الثورة وتمارس أفعالًا لا تنسجم إطلاقًا مع توجهات الشعب السوري الوطنية المعتدلة.
أما الأسباب الذاتية، وهي -برأيي- الأخطر، فتتمثل في الدور الذي لعبته قوى المعارضة والثورة السياسية والعسكرية.
المعارضة السياسية سلّمت أمرها، منذ اليوم الأول، للقوى الخارجية. وهنا مقتل الثورة. وكان السوريون الشرفاء من نخب وسياسيين يرفعون صوتهم بأن ما يجري لا يليق بالثورة العظيمة والتضحيات الكبرى، وكان يتم تجاهل كل الأصوات المخلصة والعقلانية التي تدعو للعمل المبرمج والمخطط والصادق. فمظاهر الانتهازية والتسلق على ظهر الثورة، والاختراق لصفوفها، بدت واضحة للعيان، ومع ذلك كنا نشهد صمتًا من قبل القيادات على ذلك!! كما أن هناك أصواتًا متطرفة كانت داخل المعارضة، ولم يتم التعامل معها بشكل ثوري ووطني.
التيارات الإسلامية قتلت الثورة؛ لأنها سمحت بكل هذا الكم الهائل من التلوينات الإسلامية المسلحة، ولم توضح حقيققتها للناس. والتيارات العلمانية قتلَت الثورة، لأنها تنظر وتنتقد دون أن تقدم فعلًا ميدانيًا، ودون أن تقوم بدورها في بلورة التيار الوطني الديمقراطي. والأدهى من ذلك أن بعضها ساهم في إبراز شخصيات لا تمت إلى الثورة بصلة، وبعضها بقي حبيس أيام العهود السرية، ولم ينفتح على الثورة بشكل حقيقي، بل عمل بعقلية الإقصاء والتخوين والانغلاق على الذات.
لا أحد معصوم عن الخطأ، وكلنا نتحمل مسؤولية ما جرى. ولكن المسؤولية تكبر مع كبر المنصب.
هياكل المعارضة كانت هزيلة لدرجة معيبة. وما زال البعض متشبثًا بموقعه، ولا يعترف بخطئه، ولا يعلن مسؤوليته عمّا يجري من أخطاء!!
هناك متسلقون تبوّؤا أعلى المناصب في المعارضة، فكيف تنتصر الثورة، ومصيرنا بيد أناس مشكوك في وطنيتهم وانتمائهم إلى الثورة.
الثورة بحر هائج ونهر جارف، وللأسف، طفت على السطح حثالات وأوساخ، تمّ تقديمها للعالم على أنها من يمثل الثورة، ولهذا السبب صدّ العالم وجهه عن الثورة.
إلى الآن، لم نناقش ولم نتأكد من تصرف الشاب الحمصي الذي أكل قلب عدوه؟ كيف حدث ذلك؟ هناك من المعارضين من يبرر هذا التصرف الجنوني. الرئيس الروسي استشهد بهذه الحادثة عشرات المرات، ليشوه صورة الثوار.
إلى الآن، لم يقم الإسلاميون، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون، بتقييم وفضح (داعش) و(جبهة النصرة)، وتقييم ممارسات السلفيين بأنواعهم. كل هذا الصمت لعب دورًا في تشويه الصورة وغياب الحقيقة عن الناس.
من هي “جبهة النصرة”؟ في البداية كنا نفرح لانتصاراتها ضد النظام، وثمة معارضون علمانيون كانوا يمدحونها، بالرغم من أنها أعلنت تبعيتها لتنظيم القاعدة! أليست هذه مفارقة؟
أين مفكرو الثورة القريبون من الحدث؟ لماذا لم يشرحوا الأمور، ويكشفوا حقيقة هذه القوة أو تلك الشخصية؟ لماذا صمتت القيادات حتى عن المخترقين من قبل النظام، الذين بقي بعضهم داخل القيادات العليا للمعارضة، وأخيرًا ملّ بعضهم فرجع إلى حضن سفاح دمشق.
تحليل ما جرى في الثورة السورية يحتاج إلى مجلدات، ولكن هناك نقاطًا عامة وجوهرية، برأيي:
- القيادة السياسية أصبحت بيد من “سمّى” نفسه معارضًا في الخارج. وأقول “سمّى” نفسه (يمكن تسميتهم معارضة الصدفة)، لأن بعضهم حتى الأمس كانوا ينعمون بمكاسب من تبعيتهم للنظام، وفجأة أصبحوا قادة في المعارضة.
- غياب الاستراتيجية الشاملة، لدى قيادات المعارضة وقوى الثورة، ليس صدفة، وإنما يعود لأمرين: الأول عجز تلك الشخصيات في تقديم هذه الاستراتيجية، والثاني الركض وراء مكاسب وقتية وتلقي الأوامر من الخارج جعلهم يرتجلون القرارات دومًا، وينتظرون الفرج من جهات ليست سورية. وأذكر موقف الهيئة العليا للتفاوض، من مؤتمر سوتشي الذي رفضه اغلب السوريون، بينما ظل أعضاء هذه الهيئة يتهربون من إعطاء موقف صريح حتى آخر لحظة. والسبب ليس دراسة الموقف، كما كانوا يقولون، وإنما هو انتظارهم الأوامر من الجهات الخارجية.
- غياب القرار الوطني السوري المستقل؛ فقرار الثورة كان مرتهنًا للجهات الخارجية بأنواعها. وهنا يلعب الإسلاميون دورًا متقدمًا في تبعيتهم الفعلية للخارج، بالرغم من بياناتهم التي تؤكد على ثوابت الثورة واستقلالية القرار.
- إهمال إمكانات الآلاف من النخب السورية، في الداخل وفي الخارج، التي كان بمقدورها خدمة الثورة بشكل فعال لو تم تنظيمها.
- وقعت المعارضة في خطأ تاريخي، وهو اعتماد مبدأ المحاصصة الطائفية والقومية في هيكلها. بينما المفروض أن يتم الاعتماد على مبدأ التعددية السياسية والفكرية والاجتماعية، لا المذهبية والإثنية. فهذا أحد أسباب تشتت قوى الثورة وإضعافها. فعندما كان فارس الخوري زعيمًا وطنيًا لم يقدّمه أحد، كونه يمثل طائفة أو دينًا بل كان يمثل السوريين كلهم: مسلمين ومسيحيين عربًا وكردًا..
وبالرغم من كل ما حدث، يتساءل السوريون ما العمل؟
برأيي المتواضع: الثورة لم تمت والسوريون ذاقوا طعم الحرية، وإن كانوا قد دفعوا ثمن ذلك غاليًا. ولا يمكن لسورية أن ترجع إلى ما قبل آذار/ مارس 2011. والديكتاتورية انتهى عصرها.
وعلينا بلورة تيارات وطنية ديمقراطية، تتصدى للمرحلة القادمة التي ستكون سياسية سلمية وليست عسكرية.
نحن أمام تحديات مصيرية، عنوانها ملء الفراغ السياسي الذي سيعمل أنصار الثورة المضادة على ملئه من جديد، باستخدام أساليب القمع والتخويف.
اليوم، يبرز دور المجتمع المدني والتنظيمات السياسية المستقلة والوطنية بامتياز. اليوم، يبرز دور الشباب المتحررين من عقليات المعارضين المتخلفة والانتهازية، وعلينا الابتعاد عن كل ما هو طائفي وقومي وديني.
مصير سورية بيد السوريين، بمعنى أن الوطنية السورية هي التي تجمعنا، ويمكن لها أن تتجسد في دولة المواطنة.