تحقيقات وتقارير سياسية

سقوط الغوطة الشرقية يتسبب في تهجير قسري جديد

بعد خمس سنين، يقترب أطول حصار في تاريخ الحروب الحديثة من نهايته، الغوطة الشرقية على وشك السقوط. بلغ الهجوم الذي قام به النظام السوري وروسيا، خلال الأشهر الماضية، جميعَ أهدافه تقريبًا، حيث إنّ الغالبية العظمى من هذه المنطقة تخضع الآن لسلطة النظام. عدد القتلى من المدنيين مرتفع للغاية، ولكن لم يكن ذلك مصدر قلق لبشار الأسد قط. بعد سنوات من الحصار والتجويع، ومقاومة بطولية أظهرها سكان الغوطة، قرر النظام ضرب الضربة الأخيرة. منذ بداية الهجوم في شباط/ فبراير، قُتل ما يقارب 1500 شخص، وأصيب أكثر من 5000 شخص. وكانت طائرات النظام السوري والروسي قد قصفتا عمدًا المستشفيات والمدارس، وغيرها من المرافق المدنية الأساسية. وتشير العديد من التقارير إلى استخدام الأسلحة الكيميائية مرارًا وتكرارًا ضدّ السكان المدنيين.

ونتيجة لهذا الهجوم الطائش، نجحت قوات النظام في الأسابيع الأخيرة في تقسيم الغوطة الشرقية إلى ثلاث مناطق، ثم بدأت في التفاوض على صفقات الإخلاء مع الجماعات المتمردة في المنطقة. وكانت “أحرار الشام” هي أولى الجماعات الإسلامية التي ألقت بسلاحها، يوم الأربعاء الموافق لـ 21 آذار/ مارس 2018، في مقابل مرور آمن نحو إدلب: آخر معقل لجماعات المعارضة في سورية. وجاء انسحاب الجماعة استجابة لضغط المدنيين، الذين أُجبروا شهورًا على العيش في الملاجئ تحت الأرض، من دون غذاء أو دواء، هربًا من القصف الوحشي على الآلاف المدنيين. كما جرى توقيع اتفاقية مماثلة، بعد فترة وجيزة، من قبل “فيلق الرحمن”. يبقى “جيش الإسلام”، المسيطر على دوما، الرافض الوحيد للتوقيع على الاتفاق حتى الآن. ومع ذلك، فإنّ المفاوضات جارية مع وسطاء روسيين، مع ترقب التوصل إلى اتفاق في غضون الأيام القليلة المقبلة.

مرة أخرى، تعود حافلات النقل الخضراء إلى الأضواء، وقد أصبحت أحد رموز الصراع والألم في سورية، محملة بآلاف من سكان الغوطة الشرقية تقلّهم بعيدًا من وطنهم نحو مستقبل مجهول. لم تقتصر الحافلات على نقل المسلحين وعائلاتهم فحسب، بل أجلت المدنيين من السكان أيضًا. إلى الآن لم تُحدَّد أعداد النازحين تمامًا، لكن العدد وصل إلى نطاق عشرات الآلاف. فضّل العديد من المدنيين المغادرة على الاستمرار في العيش، في ظروف لا تُحتمل من انعدام المواد الأساسية للعيش، فضلًا عن خوفهم من السقوط مجدّدًا بين أيدي النظام السوري المحمل بالثأر والانتقام.

إنّ صفقات الإخلاء هذه تشكّل انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي، خاصة حينما يتعلق الأمر بنقل المدنيين بالإكراه. يُحظر التهجير القسري للمدنيين، بموجب المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، وكذلك بموجب المادة 17 من البروتوكول الملحق الثاني لاتفاقيات جنيف، في ما يتعلق بالنزاع المسلح غير الدولي. تُعدّ هذه المواد جزءًا من القانون الإنساني الدولي العرفي. إنّ التهجير القسري يعدّ أيضًا جريمة حرب، بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

إنّ الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة يتمثل في إجلاء المدنيين، إذا ما تتطلب أمن السكان ذلك، أو إذا ما اقتضت أسباب عسكرية قهرية ذلك. إلّا أنّ هذا الاستثناء لا يمكن الارتكاز عليه، بما يخص الوضع في الغوطة الشرقية، وذلك لعدة أسباب. في المقام الأول، لا يستطيع النظام التذرع بهذا الاستثناء، لأنّ حالة الخطر على السكان المدنيين ناتجة بشكل أساسي عن أعمال غير قانونية يرتكبها النظام نفسه. على مدى سنوات عديدة، فرضت القوات الموالية للأسد حصارًا غير قانوني على الغوطة، وتعمّدت مهاجمة السكان المدنيين، في تجاهل تام للمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني. وعلاوةً على ذلك، تنصّ المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على أنّ “على الدول الأطراف، عند القيام بعمليات الإجلاء هذه، أن تضمن، إلى أقصى حدّ ممكن عمليًا، توفير السكن المناسب لاستقبال الأشخاص المحميين، وأنّ عمليات الإجلاء تتم في ظروف مُرضية”. وعلى النقيض من هذا الحكم، سيتم نقل العديد من النازحين إلى إدلب، حيث تقوم قوات النظام بحملة عسكرية أخرى. وأخيرًا، ينبغي أن تكون عمليات الإجلاء المشروعة مؤقتة، وينبغي السماح للأشخاص النازحين بالعودة بأمان، بمجرد أن يصبح ذلك ممكنًا. غير أنّ الوضع المأسوي للنازحين الآخرين في سورية يُظهر مدى صعوبة العودة إلى الوطن، بسبب الخوف من الانتقام أو فقدان حقوق الملكية.

يمكن القول إنّ نزوح المدنيين في الغوطة الشرقية ليس “قسريًا”، حيث قرر العديد من المدنيين المغادرة بمفردهم. ومع ذلك، تكمن هذه الحجة في تفسير خاطئ لكلمة “قسري”. وكما أوضحت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في عدة حالات، فإنّ مصطلح “الإكراه” يجب أن يُقصد به بصورة عامة أي شكل من أشكال الإكراه، ومن ذلك التهديد بالعنف. ويعدّ النزوح قسرًا “عندما يحدث دون أساس مسموح به بموجب القانون الدولي”. إنّ سنوات الحصار، والحرمان من الدواء والغذاء، والاستهداف المتعمد للمدنيين والمرافق المدنية ليست سوى جزء من الجرائم التي يرتكبها النظام السوري في الغوطة الشرقية. هذه الحالة المأسوية أقنعت آلاف المدنيين بالفرار، حالما أتيحت لهم الفرصة للقيام بذلك. وهذا يندرج تحت حظر التهجير القسري.

يقوم النظام في الغوطة الشرقية بما قام به في أجزاء عديدة من سورية من قبل، من حلب إلى حمص. فمن جهة يقوم بتهجير من لا يريد أن يعيش تحت حكمه، ومن جهة أخرى يجبر الذين بقوا على الخضوع التام. إنّه هو الخيار الوحيد المتبقي للسوريين، في حين يظل المجتمع الدولي يراقبه، بلا حول ولا قوة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق