فجأة، قررت الولايات المتحدة سحب قواتها العسكرية من سورية، لتترك الساحة لـ “الآخرين”، ثم قررت أن تتراجع عن هذا القرار، بعد أن أجرى الرئيس “المعجزة” دونالد ترامب “استخارة”، مع المقربين منه وسناتوراته ورجال مخابراته.
ليست تصريحات ترامب مفاجئة، فقبله أعلن الرئيس -المعجزة هو الآخر- فلاديمير بوتين أن روسيا ستسحب قواتها العسكرية من سورية، وتتركها أيضًا للآخرين، ليتدبروا أمورهم وأمورها، ثم تراجع، بعد أن أجرى “استخارة” مع المقربين منه وسناتوراته ورجال مخابراته أيضًا.
يحاول الأميركيون والروس الإيحاء بأن قرار انسحاب عسكر دولهم من سورية أو البقاء فيها هو قرار كيفي، قد يكون ارتجاليًا، يخضع لأمزجة الرؤساء أو مستشاريهم، ويمكن أن يحصل بين ليلة وضحاها.
يتعامل الرئيسان الروسي والأميركي مع الملف السوري، باستخفاف لم يحصل من قبل مع أي ملف حربي دولي آخر، ويتاجران كلاهما بالشعب السوري وجراحه وآلامه وآماله، ويمرران عربة مصالحهما من فوق الجثث، وبوصلتهما ثابتة كما خُطّط لها، وهدفهما دقيق ومدروس ومحدد، ولا يمكن لأي منهما أن يعبث، بهذه البساطة والارتجالية، بملف استراتيجي، على عكس ما يحاول كلاهما الإيحاء به.
أقام كلاهما العديد من القواعد العسكرية، وأنفقا المليارات لإنشائها، وغيّرا في تركيبة حكوماتهما، بما يتلاءم مع أهدافهما في سورية، وفككا تحالفات وركّبا، واختلفا مع حلفاء واتفقا مع آخرين، ورعَيا عددًا غير محدود من المؤتمرات والاجتماعات والمبادرات، وكل ذلك على خلفية الحرب السورية وحدها تقريبًا، ثم يصوّران أن دخولهما أو خروجهما من سورية عرضي وارتجالي وطارئ!
للدول الاستعمارية أهدافها، وللشعوب المُستعمَرة أيضًا أهدافها، وفي عالم وحشي، غالبًا ما تتعارض هذه الأهداف، ووفق تجارب مشابهة، تكون الغلبة في البداية للدول، وفي النهاية للشعوب.
نجح الروس والأميركيون في إنهاء عسكرة الثورة، وهو أمر غير مأسوف عليه، فثورة السوريين في الأصل لم تقم على العنف بل ضده، ولم تهدف إلى القتل بل إلى إيقافه، لكنّهما -بمساعدة النظام- دمّرا البلد، كبنية اجتماعية واقتصادية وأمنية وحضارية، وهي الحال الوحيدة التي يمكن أن يعيش فيها النظام السوري.
ربما هنا بيت القصيد، فلا روسيا ولا أميركا مهتمتان في واقع الأمر بزوال نظام “إمّعة”، ومصلحتهما الراهنة تقتضي وجوده، وضعفه وارتهانه وارتزاقه مطلوب الآن، والخلاص منه أمرٌ هيّنٌ في أي وقت، لأنه أضعف الحلقات وأوهنها، وهو يقف كجرو صغير في ظل شجرة ضخمة، ويعتقد أن ظل الشجرة هو ظله.
لا يمكن لنظامٍ تآمر مع مستعمر أن يصمد، مهما قُدّم له من سبل للصمود، وإنّ نظامًا اعتمد على مرتزقة وميليشيات، وعاش على ترسيخ الطائفية، وحوّل مجتمعه إلى مجتمع “متجانس”، وبنى أفرانًا بشرية، واستخدم أسلحة كيمياوية، وقتل الأطفال والنساء، ودمّر المدارس والمشافي، ونهب أملاك البشر الذين هجّرهم، لا يمكن له أن يستمر، مهما هيّأ له أي مستعمر سبل العيش والصمود مرحليًا.