في الأسواق القديمة التي تقع خلف أسوار دمشق، كما في الأسواق الحديثة، تغيّرت منظومة العرض والطلب؛ حيث أدخلت الحرب التي مضى عليها نحو سبعة أعوام، ثقافةً مغايرةً تتناقض كليًا مع تقاليد مهنة التجارة، ومفهوم الصنف الجيد الذي اشتهرت به الصناعة المحلية، أو المستورد من الخارج، بغياب مثيله الوطني.
الأصناف المعروضة، هنا وهناك، تأخذ اليوم طابعًا سيئًا لا يمكن تجاهله، أو تجنب التساؤلات حوله. ومن الواضح، على هذا الصعيد، أن سياسة الإفساد التي اتبعتها عائلة الأسد، منذ استيلائها على السلطة، لم تقف عند حدود السياسية، والإدارة، فحسب، بل اخترقت منظومة الاقتصاد، وركزت في سنوات الحرب على قطاعات التصنيع والتجارة والاستيراد، لتضيف إلى تشوه البنى الاقتصادية والاجتماعية في الحياة السورية تشوهًا جديدًا، يشرعنه النظام، حين تنعدم الرغبة لديه في تطبيق أنظمة الجودة، أو التخطيط لها، وضمانها وضبطها وتحسينها، بشفافية وعدالة.
في سوق الحميدية، المركز التجاري الرئيس للعاصمة، حيث يتمتع مساره بأهمية استثنائية، كونه طريق الحج المؤدي إلى مقام رأس الحسين داخل الجامع الأموي، اختفت من المحال التجارية، مؤخرًا، عبارة “رأس الحكمة مخافة الله” التي تعبّر في سياقها العام عن تلازم التجارة مع التقوى، وقد استبدل التجارُ باللوحة التي تصدرت لعقود عديدة محالهم من الداخل، صورًا للأسد الابن، ووالده، كدلالة على التغير الذي طرأ على العلاقات التجارية في ظل حكم العائلة. وهو التغير الذي أنتج تحولات عميقة، ومكاسب لرأس المال ذات قيمة. وصنع من الحرب، مؤسسة اقتصادية، تشرف عليها وتنميها طبقة من التجار ورجال الأعمال الجدد. هم في مقدمة المستفيدين الأساسيين من استمرار الصراع، ينافسون اليوم حلفاء سابقين لعائلة الأسد، كانوا أكثر ملاءمة.
“محمد.ع”، موظف في القطاع الإداري لحكومة الأسد، يربط الانحدار السائد في الأسواق، من الناحية العملية، بفساد النظام ككل. ويرى أن تردي الوضع المعيشي وتراجع دخل الفرد السنوي -بالنظر إلى قيمة الليرة التي هبطت أمام العملات الأجنبية لمستويات قياسية، ما أفقد أصحاب الدخل الثابت القدرة على مجاراة السوق- قد ساعد بشكل أو بآخر في نمو ظاهرة فتحت، أمام الأكثرية المنهارة ماليًا، سوقًا تلبّي أسعاره المتدنية احتياجاتهم.
يتقاضى “محمد” راتبًا لا يتجاوز 90 دولارًا في الشهر، وهو ربّ أسرة مؤلفة من ثلاثة أشخاص، تكاد لا تحصل على الغذاء الكافي لاستمرار حياتها. ولذلك، لا يرى في الرقم ميزة، سوى أنه يساعده نوعًا ما، في دفع آجار المنزل، وتسديد فواتير الخدمات التي تقدمها حكومة النظام بشكل متقطع. أما احتياجات أسرته الأخرى، الغذائية والاستهلاكية، فيقول: إن “تأمين قيمتها بات معضلة”، فيضطر مثل غيره إلى “اقتناء سلع رخيصة الثمن، محلية أو مستوردة، لا تتمتع بالحد الأدنى من الفاعلية والجودة والأمان”.
سابقًا، أي في سنوات ما قبل الحرب، استثمرت عائلة الأسد، في الاقتصاد، لصالح قيادات الصف الأول والثاني، وتحكّم رجال الرئيس والمقربون منه لاحقًا، بمنافذ التصدير والاستيراد، البرية والبحرية والجوية. كما سيطروا بشكل كامل على المؤسسات المالية الرسمية، ودوائر قطاعات الاقتصاد الرئيسية. كانت مشكلة الاقتصاد السوري، ترتبط حينذاك بأربع قضايا رئيسة: ضعف النمو، التضخم، البطالة، تدني المستوى الحياتي للطبقات ما دون العليا. لكنها استمرت، وراحت تتفاقم بحدة، منذ أن أصر الأسد على استخدام القوة، لقمع تطلعات شعبه للحرية والعدالة.
في ذروة صراعه على السلطة، ولضمان ولائهم، قدّم الأسد مكرمة جديدة لرجاله. فحين كان الناس يناضلون من أجل الحصول على رغيف خبز، وبعض الخضروات، لموائدهم، أفسح الأسد لداعميه من التجار ورجال الأعمال الجدد، المجال، كي يستثمروا في احتياجات السكان، وأوجاعهم، ويجنوا ملايين الدولارات، من وراء صفقات حصرية، لأصناف رديئة فُتحت لها المنافذ الجمركية دون تدقيق بهويتها، أو مواصفاتها، أو صلاحيتها للاستهلاك البشري، وامتلأت الأسواق بمنتجات سيئة الصنع، غير صالحة للاستهلاك، لا تتمتع بالجودة، وتفتقر إلى شهادة المنشأ.
يعترف رئيس اتحاد غرف التجارة السورية: غسان القلاع، بأن موضوع الجودة لم يعد يشغل بال المعنيين، وقد جعلوه خلف ظهورهم، سواء على مستوى البضائع المنتجة محليًا، أو على مستوى البضائع المستوردة من الخارج. و”القلاع” الذي تربطه صلات قوية بنظام الأسد، وكان الأخير قد أرسله لافتتاح مؤتمر سوتشي الذي انعقد برعاية روسية في كانون الثاني/ يناير المنصرم. يمثل اليوم طبقة التجار التقليدية في دمشق. لكنه هو الآخر، لا يعرف كيف دخلت كميات كبيرة من هذه البضائع السيئة ذات المواصفات الرديئة إلى الأسواق عبر المنافذ الرسمية؟
في الغابة السورية، كما يبدو، لا أحد يعرف ماذا يفعل الأسد، ولا متى ينقضّ على فرائسه. فقد كانت سلطته على الدوام امتدادًا لحياة الغاب، تحكمها قوانين أشبه بقوانين الانتخاب الطبيعي “القوي يأكل الضعيف”، وفق تراتبية هرمية، تعتمد على القوة. لا قوة العضلات، كما يُظن، بل القوة المتأتية من هيمنة العائلة وأذنابها على الاقتصاد، والنظر إلى الناس كفرائس لضواري تعيش على البطش والافتراس، لا أكثر.