مقالات الرأي

النصر والهزيمة في منظور النظام والثورة

 

وعَد النظام الاستبدادي مواليه، منذ اليوم الأول للثورة السورية، بسحقها وباقتراب النصر، وما الكلمة التي ترددت في أوساط موالي النظام في الأشهر الأولى: (خلصت)، والتي أصبحت متداولة بأوساط السوريين المتظاهرين، للسخرية والاستهزاء من النظام السوري ومواليه، إلا دلالة على هذا الوعد. عندما استمرت الثورة، ولم يستطع النظام إخمادها بالاعتقال وبالرصاص؛ رفع النظام ومواليه مقولة “الأسد أو نحرق البلد”، وهي التجسيد الحقيقي لعملية الانتقام الوحشية من أنصار الحرية والكرامة. وتدلّ هذه المقولة على أن النظام السوري وأنصار الثورة، كأنهما جيشان لدولتين يتحاربان من أجل استرجاع أو احتلال قطعة أرض، أحدهما سينتصر والآخر سيُهزم.

تعامل النظام السوري مع أنصار الثورة السورية، كعدو يجب أن يُهزَم بشتى الطرق والوسائل، من إنزال الجيش إلى الشوارع، إلى ضرب المتظاهرين بالرصاص، إلى استجلاب الميليشيات الطائفية من لبنان وإيران والعراق… وغيرهما. وعند شعوره بالفشل في هزيمة هذه الثورة؛ استجلب المحتلين الروس لسورية، ولو على حساب سيادته وسلطته، وربما على حساب وجوده بالكامل، عند حصول التسوية السياسية الشاملة، على الصعيد الدولي للقضية السورية، كما يطلق عليها على الصعيد الأممي. فعل كل ذلك من باب الانتقام من السوريين، وتجسيدًا لمقولة “الأسد أو نحرق البلد”، وبالفعل ها هو الأسد يحكم سورية -بإشراف المحتلين الروس- وهي مدمّرة، وأهلها مُهجّرون، وأجزاء منها مقتطعة.

استجلب النظام السوري الاحتلالَ الروسي عام 2015، وأصبح تحت الهيمنة الروسية بالمطلق، حتى رئيس النظام، إذا أراد الخروج من قصره إلى أي منطقة بدمشق، فإنه بحاجة إلى الحماية الروسية على الأرض وفي الجو، كما حصل في زيارته إلى أطراف الغوطة، وبرتوكول التعامل معه في قاعدة حميميم مؤشر على تلك الهيمنة.

استنادًا إلى فهم النظام المادي والمختزل للنصر والهزيمة، ببقاء الأسد على كرسي الرئاسة أو بإبعاده عنها، تحضر احتفاليته مع مواليه بالانتصار الساحق على مواطني الغوطة! من خلال الاحتفالات والأهازيج في شوارع دمشق، وصور “السيلفي” لجنوده مع نساء وأطفال الغوطة المحاصرين من أربع سنوات في الأقبية، أو توزيع علبة صغيرة من الماء وسندويشة فلافل، مقابل الهتاف وإعلان الولاء لبشار الأسد! هذا الغرور بالنصر هو بحد ذاته مؤشر على هزيمة معنوية وأخلاقية قاتلة للنظام.

هذا المشهد ليس بغريب على النظام، حتى لدى مواليه؛ فلِكي تحصل الأسرة على مئة ليتر مازوت في الشتاء، عليها أن تبرز وثيقة موت أحد أفرادها وفاءً للنظام! وهنا أجد المبرر الأخلاقي لطرح سؤال على المتخصصين في التاريخ: هل من جنود احتلال، لأي شعب بالتاريخ، مارسوا بحق النساء والأطفال، ما فعله جنود النظام بحق السوريين في الغوطة وغيرها من المدن السورية؟ أعتقد أن الجواب البديهي هو النفي.

واهمٌ مَن يظن أن هناك إمكانية للصمود في الغوطة أو في أي مدينة سورية أخرى، مقابل هذا التحالف العسكري الفاشي الواسع: (القوات الروسية، الإيرانية، الميليشيات الطائفية، وبقايا الجيش الأسدي)، واستخدام كافة صنوف الأسلحة حتى المحرمة دوليًا، وتدمير بلدات الغوطة كاملة، بحيث لم يبق حتى ملاجئ للنساء والأطفال، حيث كان من الطبيعي موافقة سكان الغوطة على التهجير القسري، من الغوطة إلى الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام.

إن أبرز عناصر استمرار قوة النظام في مواجهة الشعب السوري هو الدعم اللامحدود الذي قُدّم، وما زال يقدّم، من قبل كل من روسيا وإيران في مجالات التسليح والمشاركة في القتال، والاتصالات والإلكترونيات والإعلام والدعم السياسي والاقتصادي. إضافة إلى ذلك استخدام روسيا حق (الفيتو) الدائم في مجلس الأمن ضد أي قرار أممي ضد هذا النظام.

لولا هذا الدعم؛ لفقد النظام هيكليته كنظام سياسي، وما التصاريح الإعلامية للشخصيات السياسية الروسية والإيرانية التي تقول لولا تدخلهما العسكري المباشر لسقط النظام خلال عشرة أيام، منذ عام 2015، إلا دليل على ذلك. إنه نظام قائم تحت المظلة العسكرية الروسية والإيرانية، وبالتالي تنفى الشرعية السورية والدولية عن هذا النظام، كونه لا يستمد شرعيته من الشعب السوري، وإنما من الدعم العسكري الروسي بالدرجة الأولى والإيراني والميليشيات الطائفية بالدرجة الثانية، هذا هو مفهوم النصر لدى النظام ومواليه.

أما مفهوم النصر من منظور الثورة، فقد انتصرت الثورة السورية من الأشهر الأولى، عندما أسقطت النظام معنويًا وأخلاقيًا، بأهدافها بالحرية والكرامة، وبوحدة الشعب السوري، إضافة إلى أنها أسقطت ثقافة الخوف من ذهنية معظم السوريين، وحررتهم من قيود ثقافة الأيديولوجيات الاستبدادية، سواء أكانت يسارية أم يمينية، وأطلقت العنان لثقافة الحرية والكرامة لدى معظم السوريين.

يكفي خروج السوريين من الغوطة ومن مدنهم المدمرة، وهم ينشدون للحرية وبإسقاط هذا النظام، ويصرحون أمام شاشة تلفزيون النظام بأنهم عائدون إلى الغوطة، عندما تصبح سورية لجميع السوريين، بالوقت الذي ينشد النظام ومواليه أن سورية للأسد، ويضعون الحذاء العسكري الروسي والإيراني أوسمة على صدورهم، فقط وباختصار شديد هذه هي دلالات نصر الثورة السورية.

هكذا يلتبس لدى العديد من المثقفين السوريين مفهوم النصر والهزيمة؛ لأنه ليس هناك معايير محددة وثابتة للقول إن طرفًا قد هزم أو انتصر، خاصة بين نظام فاشي متحالف مع أنظمة فاشية احتلالية جديدة، ضد شعب يطمح بالحرية والكرامة، ولكنّ المعايير التي يمكن استقراؤها من تجارب ثورات الشعوب -تاريخيًا- هي التي تساعدنا على تقييم النتيجة.

النتيجة التي تقول: إن النظام السوري نجح (أو انتصر بمفهومه المادي للنصر) في تدمير المدن السورية الثائرة، وارتكاب مئات المجازر بحق المدنيين، وتهجير الملايين، وبقاء الأسد ماديًا على كرسي الرئاسة، بحماية روسية إيرانية مطلقة.

بقي الأسد على الكرسي، وهو يتمتع من نوافذ قصره برؤية الغوطة المدمّرة والملايين المهجرة قسريًا، والقوات العسكرية المتعددة الجنسيات، إن كانت روسية أو إيرانية وملحقاتها من ميليشيات مذهبية وطائفية في مناطق النظام، أم أميركية في المناطق الشرقية، وتركية في مدن الشمال السوري. وهذي دلالة أخرى على الهزيمة المادية والأخلاقية للنظام، فالمنتصر لا يلجأ عادة إلى المجازر، المهزوم هو الذي يقتل بشكل عشوائي، ويرتكب المجازر، بغرض التغطية على هزيمته.

لقد انتصرت الثورة السورية، معنويًا وأخلاقيًا، بمطالبها بالحرية والكرامة وبوحدة الشعب السوري، فأنصار الثورة السوريين، الذين تحملوا وصبروا على وحشية النظام وحلفائه، سيستمرون في الثورة، وإن كانت بأشكال وصيغ جديدة خلاقة، قد يندم النظام ومواليه على انتصارهم الموهوم، هكذا يروي تاريخ تجارب ثورات الشعوب.

مقالات ذات صلة

إغلاق