تحوّلات متسارعة ومتلاحقة شهدتها الساحة السورية، منذ انطلاقة الثورة، وما تلاها من حرب طاحنة ازدادت شراسة مع جملة الملفات المعقدة المتعلقة بآلية إدارة الصراع الذي خرج من دائرته الداخلية، ودخل مؤخرًا في إطار التصارع الدولي والإقليمي المكشوف والمباشر، على توسيع مناطق النفوذ المحدّدة وفق مؤتمرات أستانا، وما حدّدته من ملامح تقاسم سورية، وتوزيع حصص الخارطة السورية على الدول المتداخّلة في الحرب، سواء بموافقة النظام أو بحكم الحرب على الإرهاب، وهو ما كان واضحًا في معركتي الغوطة وعفرين، وفي صفقات التحاصص التي جرت في أكثر من مكان.
التدخلات الدولية الكثيرة المباشرة، أو عبر وكلاء أو أطراف محليين، عملت منذ بدء اشتعال الحرب على تسخين المناطق وفرز الحدود، لتغدو جغرافية سورية مقسّمة إلى مناطق تتوزعها قوى مختلفة، ففي الشمال أميركا وتركيا، وفي الجنوب تتشارك أميركا والأردن و”إسرائيل” الوصاية، ووسط سورية للنظام وإيران وروسيا، هذه القوى -بمشاريعها المختلفة والمتباينة- تُبعِد احتمالات نهاية المأساة السورية، وتجعل التعويلَ على مؤتمرات الحلول السياسية، في جنيف وأستانا وغيرها، رهانًا طويل الأمد، كونها مرهونة باتفاقات الدول وتصفية حساباتها على ملفات لا علاقة لها بالشأن السوري، كالملف الأوكراني، والحدّ من تمدد إيران، وغيرها من ملفات دولية متشابكة، كما أن هذه الدول جميعها تعمل على زيادة مكاسبها في سورية، وضمان استدامة وجودها بعد انتهاء الحرب، وبالتالي لا يعنيها إيقاف شلال الدم السوري الذي بات رخيصًا جدًا في نظر العالم المتعامي.
الأحداث السورية وحملات الإبادة، واستخدام أدوات الموت بكافة تنوعاتها، اقتصرت مفاعيلها دوليًا على إصدار قرارات غير ملزمة التنفيذ، وآخرها القرار 2401 وإقلاق راحة العالم الصامت إزاء إبادة شعب، أما مفاعيلها في سورية، فهي أشد خطورة؛ إذ لا تقتصر على فائض القتل والتدمير والتهجير إنما على نظرة السوريين لما يدور من معارك وتعاطيهم معها، إن كان لجهة ما ترسّخ من قناعات طالت طيفًا واسعًا من السوريين، بات ينحو باتجاه التسليم والركون لما تُفصِّله هذه الدول من حلول تناسبها، وبأن لا حلّ في سورية إلا عبر التوافقات الدولية، أو لجهة تحوّل الدولة السورية إلى دولة ولاءات مختلفة، تسرِّع عملية تمزيق سورية، وتبني جدرانها السميكة، مكرّسة انقسامات السوريين التي بلغت ذروتها في معركتي الغوطة وعفرين؛ حيث إن طغيان العامل الخارجي والتحركات والضغوط الدولية والإقليمية ساهمت في تعزيز انقسام السوريون على كافة الصعد، وجعلت أبناء الوطن الواحد “إخوة أعداء”، في كافة مواقفهم من القضايا الوطنية أو انحيازاتهم وتنافراتهم؛ لتصير هذه الحرب مستنقعًا يصعب الخروج منه.
الوضع المزري، ماديًا أو إنسانيًا، الذي بلغ حدوده الأعلى في ذلّ السوريين، وحالة العجز المطبق التي يبدو فيها أن السوريين يواجهون العالم وحدهم تمامًا، تدفع إلى السؤال عن إمكانات الحلول وآلياتها، فحلول الدول المتحاصصة تراوح بين التقسيم والفيدرالية على أساس طائفي وإثني، وهو ليس لمصلحة سورية والسوريين، وكلاهما (التقسيم والفيدرالية) يتطلب وجود ضابط إقليمي أو دولي، يعمل على ضبط اختلالات العلاقة بين الدولة والمجتمع المحلي، في حال نشبت اشتباكات، كونها تُنشئ كيانات ذاتية لمجموعات قومية أو طائفية أو لغوية تسعى لتوكيد ذاتها؛ ما يجعل علاقاتها مع الدولة ملتبسة ومتوترة تصل أحيانًا إلى عنف من جانب الدولة، وإلى عنف أهلي بين المجموعات، كما يعمل على حفظ التوازنات الداخلية التي تعرضت للتصدّع، نتيجة الحرب والشحن المستمر وزيادة المظلوميات، في كافة الجهات والجبهات. وبهذا تكون الفيدرالية التي يرحّب بها البعض، باعتبارها الأقدر على صون الحريات والخصوصية وحفظ الانتماءات الجهوية والعرقية والطائفية، ابتعادًا عن بناء الانتماء العام للهوية الوطنية، وتجاهلًا لبعض الحقائق، كأن تدفع الفيدرالية إلى مزيد من التطهير الإثني والتغيير السكاني الذي يتبعه إثارة الحقد والنعرات العصبية الضيقة، وصراعات لإقامة حدود جديدة متجانسة داخليًا، ولا تشكّل فعليًا حلًا للمشكلة السورية، إنما هي حلّ مناسب لإضفاء الشرعية على تقاسم النفوذ الدولي والإقليمي على سورية، عبر آلية الحكم المحلي الذاتي المقرونة بالضرورة بضمانات خارجية.
عزّزت الحرب والوصايات الدولية خلافات السوريين، وحالة التشظّي المجتمعي، وأكثرها عمقًا وبروزًا أزمة الهوية، لذلك لم يبق لدى السوريين سوى التوجّه نحو اختراق جدران الحرب والحلول الباهتة عبر حلول وطنية، يكون على رأسها الالتزام بوحدة واستقلال سورية، وعلى علمانية وديمقراطية الدولة، فحفظ الحقوق والحريات والحفاظ على الخصوصية الثقافية هو نتيجة دولة المواطنة التي يمكن للسوريين وحدهم صنعها وتثبيت أركانها.