أدب وفنون

هلوسة وتاج وتفاح وحرية

ما إن لامست قدمه وجه الإسفلت، بعد أن لبس التاج وخرج مسرورًا من باب المتحف الوطني، حتى فوجئ عبد الله بجمهرة من المواطنين المتحمّسين يحملونه على الراحات. هكذا بكثير من الأحلام النظرية، ودون تحضير كافٍ للأحلام العملية، وجد نفسه يلوّح بيديه، ثم وجدهم يهتفون، ثم تحول بهم وتحولوا به إلى حشد ينادي بمحو صور الحجاجين عن العملات عمومًا، والعربية منها خصوصًا، لأن النقود التي تستعملها الشعوب الفقيرة، لشراء الخبز والخمر والأحلام المثقوبة، يجب أن تبقى بعيدة عن السياسة والتزوير، عدا أنّ رؤوس الحكام لا تصلح لشراء البضائع المغشوشة والأغذية المسرطنة.

لم ينتبه عبد الله كيف صارت الجماهير تردد وراءه الهتافات المنددة بالعملات الورقية التي تحمل صور الحكام، ولم ينتبه كيف تحول إلى ثائر دون أن تكون عنده مشاريع ثورية! ولم يعرف عبد الله لماذا أحسّ أن شيطانه بدأ يدسّ له بعض الشعارات التي كان صنفها من قبل أنها آيات شيطانية، فقال له:

– اخرس اخرس! يكفي أن تكون الجماهير هي المشاريع

فردّ شيطان عبد الله على عبد الله:

–  لكن الجماهير لم تمتلك رؤوسها بعد، عدا أنها لا زالت حائرة بها! أهي عورات بالفعل أم هي كنوز بشرية.

فقال عبد الله:

–  اخرس اخرس! ومتى كنت تفهم في أصول الإيمان والحرية؟

وتذكّر عبد الله أن شيطانه طالما وعده أن يتغيّر كثيرًا إن لبس هو التاج، لأن شياطين النخبة لا يصحّ أن تبقى كما بقية شياطين البرية!! لذا أراد أن ينهي الحوار مؤقتًا.

قال عبد الله:

–  أعرف أعرف، كل شيء حتى الحوار يأتي فيما بعد.

وأغلق سحّاب البنطلون عليه، بعد أن خرج من الحمام العام، فهبطت تفاحة أخرى على رأسه! ومرة أخرى -أيضًا- لم ينتبه عبد الله متى نزل عن أكتاف الجماهير، ولا أين أصبحت الجماهير بعد أن نزل عن أكتافها، وها هو يسير حافي القدمين لأنه فقد حذاءه، في غمرة الحماسة والفرح النيّئ.

وبينما كان يفكّر بعبقرية التفاح، فهذه الرحلة العاقلة بدأت بقضمة تفاحة واحدة لا غير، وما زالت السلالة تركض عسى تقضم ما تبقّى منها، أما سرّ الجاذبية، فبدأ بسقوط تفاحة كادت تشق رأس نيوتن، وأما تفاحته هو فقد عادت إلى مكانها بعد أن سقطت دهرًا، ونجت بأعجوبة -حتى الآن- من صدأ العزلة، وهي ما زالت صالحة للصراخ والمطالبة بالعدالة والتوزيع العادل للثروات الوطنية… ورأى عبد الله على مقربة منه عشرات المزارعين اليائسين “يدلقون” صناديق تفاحهم الثمين، فوق وجه الإسفلت الحارّ، احتجاجًا على الأسعار المتدنية  للحياة والبشر، والأسعار المرتفعة للمنازل السكنية والمناصب والأدوية المغشوشة.

كان التفاح الأحمر المورّد كخدود الصبايا يتدحرج نكاية بأسواق الخضار والذهب والسياسة والدين والدلافين والحيتان وأصحاب الشعارات القومية.

وحين سمع عبد الله شيطانه يعوص بلغة فصيحة:

–  إلى متى يبيعونكم الكلام بأسعار جنونية، ويكنزون الذهب والفضة والدولارات الأميركية؟ شعر تمامًا، أنّ يدًا بأصابع باردة كالحديد تقبض على عنقه من خلف، وتجره إلى وراء:

– تعال تعال! ما شاء الله عليك وعلى شيطانك! كأنك صدّقت بكذبة الديموقراطية؟

–  ديموقراطية؟

–  وأيضًا ببدعة الحريّة؟؟

– حرية؟

عرف بعضهم، وشك ببعضهم، ورأى هراوات لعصابات وبلطجية، واختلط في سمعه أصوات الصراخ والشعارات والشتائم. تفرّقت الجموع التي كانت تحمله على الراحات منذ لحظات، ثم غارت في أطراف الأزقة ودهاليز الحارات والأماكن، هرب من هرب، وسقط من سقط، وغرق من غرق، وضاع من ضاع.. لكن عبد الله اكتشف في لحظة تالية أنه فقد التاج الذي كان على رأسه، التاج الذي كان يتيه به معتقدًا أنه يحميه، لم يهنأ به. أحد سرقه منه. التاج الذهبي الثمين الذي كلّفه رحلة طويلة من الضياع والصراع والتجارب والقراءة والكتابة والأحلام… ضاع، أحد ما سرقه، وبات رأسه عاريَا كما كان أيام زمان.

ومن بين اللكمات والسياط والشتائم الحاقدة نهض، شعر بأنه لم يمت بعد، وإن كان على وشك أن يفقد الوعي، من حسن حظه أنه لم يمت تمامًا، وإن كان وحيدًا. عبد الله يضربه كابوس أنه وحيد وشريد ومطارد وضائع بين الركام. بالأمس البعيد فقد رأسه ردحًا من الزمن، واستغرق يبحث عنه طويلاً من العمر، ويقطع مفازات وصحراوات وعذابات وقهرًا ليس له شبيه حتى وجده… والآن، ها هو الآن يفقد تاج الحريّة الثمين.

هو ما زال يركض وراء هذه الحرية، والجماهير تركض وراءه، ووراء الجماهير تركض جمال وأحصنة وبغال وهراوات معدنية، ووراء الجميع تركض عصا الديكتاتورية.

شاهد عبد الله بعض سيارات الإطفاء المخصصة لإخماد الحرائق، تدهس عمدًا متعمّدًا بعض المتظاهرين وطلاب المدارس، الذين يتجمهرون في شوارع تحمل اسم الحرية، فتذكّر كيف طالما تحولت انتصارات الحكام على الشعوب إلى أعراس وطنية، في أكثر من عاصمة عربية، وكادت تغيب عليه الشمس، وهو ينظر إلى خراطيم المياه المضغوطة تكنس الجماهير كما كانت أمه تكنس القمامة. أما عندما سمع أصوات إطلاق الرصاص الحيّ، وصرير جنازير الدبابات الحربية، فقد كان تمامًا مكبل اليدين والرجلين في عربة مجهولة النمرة، والجهة، والسائق، والهوية، تتجه به إلى جهة مجهولة.

قال عبد الله الذي اعتاد أن يحلم أكثر مما يجب، لعبد الله الذي صار يحلم أقلّ مما يجب، وهما في طريقهما إلى المجهول:

– ترى كم ستستغرق هذه الرحلة العجيبة؟

فردّ عبد الله الثاني المختبئ داخل عبد الله الأول:

– لا أعرف، لكنني ما زلت أفكّر: إذا كانت رحلتنا في البحث عن الزمن المفقود استمرّت دهرًا ونيّفًا، فليت شعري! كم ستستغرق رحلتنا في البحث عن التاج… والحرية!!

  • اللوحة للفنان السوري دلدار فلمز

مقالات ذات صلة

إغلاق