قضايا المجتمع

فوبيا التعايش والاندماج في المجتمعات الغربية

التقينا في محطة الباص، في أثناء ذهابي إلى العمل، هي جارتي في العقد الرابع من عمرها، من أصول سريلانكية، تعيش في لندن منذ نحو عشرين عامًا، في حديثي معها عن الجاليات المسلمة المختلفة في لندن؛ اكتشفتُ عمق مشكلة اندماج هذه الجاليات في المجتمع الإنكليزي.

الكثيرون منهم عاشوا هنا عقودًا طويلة، وما يزالون عاجزين عن التحدث باللغة الإنكليزية، سبب ذلك أنهم فضلوا الانكفاء على أنفسهم، ضمن جالية البلد الذي ينتمون إليه. يتسوقون من المتاجر التابعة لجاليتهم، ويتعالجون عند أطباء يتكلمون لغتهم، كل أصدقائهم من أهل بلدهم فقط، وهم حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم من دون تغيير يذكر.

لم يحاولوا مواكبة تطور المجتمع الجديد الذي يحملون جنسيته. وقد يبرر البعض هذا الخيار في العيش بأنه تعويض عن الحنين المتقد لوطنهم المفقود، لكنه تبرير غير كافٍ، عندما نرى نتائجه السلبية، على صعد التعليم والثقافة والمساهمة في حركة التحضر المتسارعة، فعندما يندمج الأجنبي في المجتمع المضيف؛ يكتسب معارف جديدة، كتعلم لغتهم وعاداتهم والتعرف إلى تاريخهم الذي أصبح يعنيه مثلما يعنيهم، طالما أنه اختار جنسيتهم، وتمتع بما يتمتعون به من حقوق؛ ما يجعل عقله حرًا منفتحًا على آفاق واسعة لم يكن ليتخيلها.

ما يثير دهشتي هم الأشخاص الذين عرّضوا أنفسهم للخطر، بهدف الوصول إلى هذه البلاد، بعضهم جاء لتحسين وضعه الاقتصادي، وبعضهم جاء بحثًا عن بلد آمن تسوده الحرية والقوانين، فكيف يرفضون ثقافته وتاريخه وحضارته ولغته. هناك أمثلة عدة من خلال مشاهداتي اليومية، كأن ترى عائلة يدرس أبناؤها في المدارس الغربية، ومع ذلك تمنعهم من الانخراط في مجتمع الغرب، وفي حال كان الوالدان بعيدين كل البعد من هذا المجتمع؛ فإن الأولاد سيعيشون حالة مزدوجة، بين مجتمع أهلهم بلغته وعاداته وتقاليده، ومجتمع أصدقائهم المختلف تمامًا. هنا يفقد الأبناء الشعور بالانتماء، فلا هم يتبعون ثقافة والديهم، ولا هم غربيون، وهذا سيعني لهم القلق وعدم التركيز على إنجاز طموحاتهم بصفاء وقوة. أعرف العديد من العائلات التي قررت العودة إلى وطنها، عندما بلغ أبناؤها سن المراهقة، بدافع الخوف عليهم من الانحدار الأخلاقي، وكأن هذه الدول بتطورها وتقدمها قائمة على مجتمعات (منحلة) أو (كافرة)، لأنها لا تتبع تعاليم دينهم، ولأنها مجتمعات لا تمانع في شرب الكحول، وتؤمن بالحرية الجنسية بعد سن البلوغ.

كي نخلق حالة من التوازن، لا بد أن نعلّم أبناءنا مسألة تكامل الحضارات، وبالتالي الاقتناع بأن حضارتنا وحضارة البلد المضيف هي بعض الحضارة الإنسانية التي تهمهم، كما تهم أبناء البلد الأصليين، وأعتقد بأننا نخطئ، عندما ندخل في عقولهم فكرة أننا ننتمي إلى حضارتنا الأصل فقط. والأخطر يكمن في النظرة الدونية حيال مجتمع الغرب، وهي نظرة مستقاة في الأصل من فهم قاصر للدين، وكل ذلك يتناقض مع نضال تلك العائلات، للوصول إلى دول الغرب، ليتمتعوا بما توفره لهم من حقوق معيشية وصحية وتعليمية، دون النظر إلى هوياتهم ودياناتهم وأعراقهم. لا يمكن للمنطق أن يقبل فكرة تخلف الغرب أخلاقيًا، حتى من خلال ميراثنا الثقافي. يقول الشاعر العربي أحمد شوقي: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا”. وعلى ذلك؛ فإن مفهوم الأخلاق عند الغربيين مختلف عن مفهومنا له، وعلينا أن نحترم خيارهم الأخلاقي، طالما احترموا عقيدتنا ومنحونا الحرية الكاملة لممارستها.

ينقسم المسلمون في الغرب إلى فئتين: فئة ترفض وتحجم عن التعامل والتفاعل مع المجتمع الغربي، وفئة أخرى ترغب في التعايش والاندماج الإيجابي، دون ذوبان، لكن هناك من التحديات والأسباب الخاصة بهم، أو الموجودة في المجتمع الغربي، ما قد يحول دون نجاح الفئة الثانية بشكل مطلق. وعلى الجانب الآخر، هناك فئة قليلة جدًا استطاعت أن تحقق التوازن، بالتوصل إلى صيغة ورؤية ثقافية، تتضمن المعالم والقيم لإنسانية الأساسية المشتركة، بين ثقافتهم وهويتهم الإسلامية والجوانب الإيجابية في ثقافة الغرب، أو الدول الأخرى التي لجؤوا إليها. رؤية تضمن لهم الاحترام المتبادل والعيش الكريم المشترك بعيدًا من التعصب الديني أو الأيديولوجي والتطرف والغلو والكراهية. وأخيرًا يمكن القول إن ثمة آليات ووسائل مهمة تسهّل وتيسّر تعايش المسلمين مع الغرب، هي أولًا: التغلب على عائق اللغة، حيث إنها تعد من أهم أسس الاندماج، فمن خلالها يستطيع الوافد العمل وبناء الصداقات والتعرف على ثقافة البلد وحضارته. ثانيًا: التعايش الإيجابي مع الآخر، حتى لا يتعرض المسلم في الغرب للحيرة والعزلة والانفصام. ثالثًا: إمداد أبناء الجالية المسلمة بالقيم الإنسانية المشتركة مع الآخرين، مثل التسامح وقبول واحترام الآخر والتحاور معه، تلك هي الأسس التي توحد بينهم وتجعلهم مواطنين صالحين، وبالتالي يصبح العالم أجمع مكانًا لائقًا لحياة أفضل لكل بشر.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق