علينا أن نكف عن اعتبار “الميت مَيتًا بالنسبة إليه”، وإلا؛ فإن حزننا تجاه حادثة فقده سيُميته ثانية، لأنه في هذه الحالة على وعي تام بهذا الفناء، وما هذا الحزن في حالة كهذه إلا نوع من تعذيبه، أو لنقل: إن ذلك يمثل تهجيرًا قسريًا له، تجاه تلك الرحلة الأبدية التي لن تعيده إلينا إطلاقًا. نحن -وإن كنا صادقين في حزننا- لم نعد نمثل شيئًا بالنسبة إليه، وإذا ما كنا نعتبر هذا الحزن ضروريًا، فإن أقصى ما يحزننا هو وضعيتنا وحالتنا من دونه، بعد أن تم “شطبه من الوجود” والفعل والحركة. تبدو هذه الفكرة بالغة الوقاحة والازدراء، بخاصة أننا نبلغ مرحلة يزايد فيها أحدنا على الآخر، من حيث كيفية التعبير عن هذا الحزن، وكما يزايد السياسي باسم الثورة والوطنية والديمقراطية وغير ذلك من الشعارات، نزايد نحن باسم محبتنا لذلك الميت. وعمومًا في كل الأحوال، سيتم تبخيس كل تلك القيم النبيلة والقذف بها إلى القاع، فلا تلك الأوطان المقطعة أوصالها، ولا الموتى في لحظة كهذه يحتفظون برمزيتهم، وعلى العكس، لقد تحولوا إلى مجرد سلعة يضارب بها في أسواق المشاعر، وهذا وحده كفيل كي يجبر المرء على الاستفراغ.
المستهجن في حالة كهذه -وهذا أمر حتمي- أن هذا الحزن بات قصير العمر؛ إذ سرعان ما يتلاشى بسرعة نسياننا ذلك الميت الذي فقدناه. لا يعود هذا الغثيان المخزي إلى رغبتنا الملحة في الحياة وتمسكنا بالسعادة، وإنما مرده تلك الطريقة السيئة والمنحطة في التعبير عن حزننا، إذ لم يعد يخجلنا الإبداعُ في التنكيل بصديق ما وإذلاله أو خيانته؛ حتى إذا مات، تنافَسنا على البكاء، وصرنا أول الراكضين خلف جنازته؛ ما يدفع أحد أقربائه أو الذين أحبوه بصدق، إلى الصمت، كعلامة على ابتلاع المأساة وجمرة الفقدان، خوفًا عليها من التشوه، هكذا نجرد هذا الميت من إنسانيته، ومن ثم نقفل الحديث عنه نهائيًا، لنعود فيما بعد إلى تفاصيل حياتنا اليومية المكبلة بكل ذلك الرياء الاجتماعي.
لم يعد يخجلنا -أيضًا- أن نجعل من ميتٍ ما أسطورة كبرى، كَأَنْ نصبغ على حياته صورة لم يكن عليها، ربما نحن نسعى إلى ذلك، لأن لحظة سماعنا خبر موته كانت كارثية وصادمة: في النهاية، سنكتشف أننا كنا نكذب، وهذا الكذب كفيل بجعل الميت يُنْسَى بسرعة شديدة، أو هو يتحول إلى مدعاة للسخرية، من قبل البعض الآخر، لأنهم يعرفون حقيقته كما هي، خارج أسطرته ورمزيته الملغومة التي كنا نسعى إلى إلصاقها بحياته. ولا تخجلنا كذلك الشماتة في ميتٍ ما، إذ نسعى بسرعة الضوء إلى البحث عن مواقفه السياسية، وشتى تفاصيل ظروفه الحياتية، حتى نعلن بكل كره وضغينة فرحنا إزاء موته، وكما يمكن أن نفعل ذلك سرًا، نحن نطلق كرهنا في العلن، فَنُنَصب أنفسنا، بدل الآخرة والآلهة، أوصياء على جهنم التي يجب أن تبتلعه.
لقد بات هذا الجنون الإنساني أحط من السلوك الحيواني ذاته، وكما يمكن القول إن هذا الخواء الروحي الذي قذفنا إليه راهن العالم؛ حيث ليس ثمة غير إحصاء الجثث المتعفنة كلحوم الخيل الهرمة، والخوف والرعب وقيامة الوحش الآدمي في أصقاعنا. لم يعد يسمح لنا إلا بهذا الشكل من الأمراض المعاصرة، صار يمكن التأكيد -أيضًا- على انغلاق أي أفق إنساني يمكنه أن ينجينا، بعد أن تم حصار وجودنا في حرب وجودية ضارية لا مفر لنا منها، إلا بسياسة القتل أو القتل! أما أن نهرب، فقد صارت كل النوافذ والأبواب إلى الإنسانية، مغلقة بإحكام. لهذا صار السباق اليوم مختومًا بإمضاء الموت، ولهذا صار الفناء تافهًا، بل أكثر من ذلك: إن حزننا على أولئك الموتى يتحول اليوم إلى مجرد سباق بالغ الإغراء، نحو موتنا نحن، وبدل أن ندرب أنفسنا على حب الحياة بزراعة أو نثر حالة روحية ما، صرنا ندربها على قتل آخر ما تبقى في الذات الإنسانية، ما يدل على إنسانيتها، ولهذا فنحن مجرد مسوخ آدمية، ميتة سلفًا، تنوح مسوخًا أخرى، تموت الآن بضرب من الهستيريا المقززة والمقرفة.
كيف يمكن الخروج من حالة كهذه؟ كيف يمكن إعادة الاعتبار إلى ذلك الصخب العشقي الذي يكرس اهتمامنا بالحياة، بدل استثمار الموت وتخصيبه؟ أما آن لنا التفطن إلى أننا بلغنا مرحلة صرنا نتاجر فيها بالحزن حتى؟ أما زال ممكنًا البحث عن خلاص، بعد أن تحولنا إلى مجرد حفاري قبور؟ إن من يروم البحث عن إجابة الآن، عليه أولًا أن يطرح السؤال التالي: ما الذي أوصلنا إلى هذه العدمية المخيفة والمرعبة؟ ومن ساهم في “فلاحة الكارثة” التي باتت تخيم بغيوم من صديد ونار وسديم ساخن في أحشاء كل منا؟ وعليه -أيضًا- أن يكون جريئًا وصادقًا إلى حد ما، فقط ليغير من أجهزة أفلاكه، ويشير بأصابع الإدانة إلى أولئك الذين خدعونا بفكرة “نهاية الحياة”، كي نظل سجناء سردية العنكبوت اللاهوتي، إلى الأبد، ذلك الذي لا يبشر إلا بالهاوية، ولا يتورع في تخصيب الدكتاتوريات والحروب وتنشيط الإرهاب ونثر الجهل والترويع، كي يسلخ جلدنا الإنساني ويخدعنا في كل مرة، هكذا، كي نحيا القلق العنيف، ومن ثم نتحول إلى مجرد مصانع للتهكم على حياة، تديرها جنائز المقابر التي لم تسلم من أمراضنا هي الأخرى. أجل ثمة الآن ما قاله ذلك الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، أواخر القرن الماضي: “يُضني قلق عظيم، في نهاية قرننا هذا، ملايينَ الرجال والنساء. وليس هذا القلق سوى وليد البطالة والشقاء وانعدام الأمن والعنف، ويعززه شعورنا بأن حياة كل منا الخاصة وتاريخنا المشترك قد فقدا المعنى؛ فيكتب الشبان على قمصانهم: ليس من مستقبل“!
علينا أن نقطع بسرعة عاجلة وضرورية مع فكرة النهايات إذن، أن نبحث، بشكل عاجل، عن سبل اختراع هذا المستقبل حتى لا نبقى أسرى حالتنا هذه، كمسوخ كئيبة ترتل صلواتها في غدير ذلك اللاهوت المخزي.