أدب وفنون

إله الدمار في الغوطة

“آريز” يفتح النافذة المثقوبة برصاصة، يراها تنزف، ويفتحها. تخرج أمعاؤها الساخنة إليه، فيلتقطها بين يديه كأنها آخر الغنائم. يتركها على سريره كتذكارٍ، ويدلف بقدميه الحافيتين إلى الخارج، وهناك لا يرى سوى الغبار في الصباح، مرتبًا مثل غابة، غبارٌ أحمر، فوق غبارٍ أصفر، فوق غبارٍ لا لون له، ولا رائحة. فالهواء غادر باكرًا إلى الشمال، وجثةٌ تقرفصُ تحت شجرةٍ في “دوما” وتضحك، وأخرى تأخذُ حمام شمسٍ غير مكترثةٍ بإثبات نظرية التغير الديموغرافي، وجندي روسي ينظر إليها شذرًا، ويكتبُ لحبيبته في “كييف” عن التوت الشامي.

ثم يعبر “آريز”، مثل نطفةٍ بين خرائبِ الأبنية، في “عربين” و”حرستا”، يتباهى بجسده المكسو بدرعٍ برونزي لا يُقهر، ويلوحُ برمحهِ ليهش بهِ فراغًا باردًا لا اسم له، وعيناهُ تغازلان دمارًا لم يلقَ مثله من قبل، فيسأل إن كانت “أثنيا” قد استعارت عربتهُ النارية، ومرت بها من هنا، فمن غيرهُ قادرٌ على إبداعِ كل هذا الدمار.

* * *

“آريز” أو “أريس” هو اسمٌ لإلهِ الحرب، يختلف نطقهُ بين الإغريقية، واليونانية الحديثة. لكنه يظلُ إلهَ شهوةِ الدم، والقتل الوحشي، ويظل كذلك مرادفًا لغويًا لتمائمِ الهلاك والخراب، وهو ابن “زيوس” و”هيرا” في الميثولوجيا الإغريقية، وكانت أختهُ “أثنيا” أيضًا إلهة حربٍ مثله.

يخوض “آريز” حروبه بمركبةٍ ذات عجلتين، تجرها أربعةُ جيادٍ تنفثُ النار من أفواهها، ويقودها بلجامٍ ذهبي، حيث يظهرُ متسربلًا بدرعهِ البرونزي، حاملًا رمحهُ الشهير لإرهابِ أعدائه.

* * *

ألفُ قربانٍ لمجيء “إينياليوس” البطل، ألفُ صاروخٍ فراغي، ألفُ بندقية “كلاشنكوف”، ألفُ برميلٍ متفجر، ألفُ بناءٍ قتيل، وألفُ حارةٍ مبتورة الأعضاء، و191 ألف مهجر بين مسلحٍ ومدني، تركوا الغوطة الشرقية بعد الحملة العسكرية الروسية السورية الأخيرة، و”إينياليوس” لا يتعب، يطارد ظله فوق عشبِ الأبنية النازفة، ولا يكترثُ لروحٍ ملتصقة بشظية جدار. “إينياليوس” يطردُ الأرواح، ونيّات البقاء، ويزيلُ بمنديلهِ الغبارَ من فوق الدمار، كما لو أنهُ يلمعُ صورة عرشه، قبل أن يُخرِجَ هاتفه المحمول، ويلتقط بهِ صورة “سيلفي” لوجههِ الصارم، وخلفه يبتسم قطيعُ الدمار الأليف.

* * *

“إينياليوس” لقبٌ حمله “آريز”، كما تشير النقوش الإغريقية واليونانية، وكان تقديم كلبٍ كقربانٍ ليلي هو جزء مهم من طقوس عبادة “آريز”، عند أهل إسبرطة، وإن جاء القربانُ قبل ليلة المعركة، فإن “إينياليوس” يمن بالرضى على جموع المقاتلين، ويؤازرهم بدعمه الغيبي، ولطالما ظهر “آريز” كإلهٍ أوليمبي، في تاريخ الملاحم الإغريقية التي حفظت نصوصها أشعار “الإلياذة”.

* * *

يتأبطُ “آريز” عرشهُ. كرسي واسعٌ يليقُ بإلهِ دمارٍ عظيم، يضيقُ عينيهُ ليستطلعَ خرائبَ المدن حوله، ثم يسألُ أخته ورفيقة حروبه “إيريس”: أين أضعُ العرش وأجلس، هل في عربين أم في حرستا، أم في دوما؟! و”أيريس” لا تجيب، تزم شفتيها الرقيقتين، وتطيلُ النظر إلى الهلاك الذي يرفرفُ حولها من كل الجهات.

يتهللُ وجه “آريز”، ما من شيء يكدرُ مزاجه الدموي في إمبراطورية الدمار التي يراها ممتدةً أمام عينيه، يفتحُ حسابه على “تويتر”، ويغرد: سأضع عرشي هنا، فوق ماء هذا الدمار المهيب، وأحكم العالم من جديد.

* * *

لم تهزم الحروب الملحمية “آريز”، لكنه جُرِحَ في إحداها كما تذكر “الإلياذة”، فرجعَ إلى جبل “الأوليمب” ليعالجه “زيوس”، ويُسمعه كلامًا قاسيًا. ولطالما ظهرت إلى جانب “آريز” أخته “إيريس” كآلهة للشقاق والفراق، ورفيقة لحروبه الطويلة، أما ما تبقى من معبد “آريز” في مدينة أجورا، فقد تم نقله وتحويله إلى معبد للإله “مارس”، إله الحرب عند الرومان خلال حكم الإمبراطور أغسطس.

* * *

لا يتقن “آريز” رقصَ التانغو، لكنهُ يرقص فوق حُطام بردِ شهر آذار، يهتز منتشيًا مثل مجرة، مُترنمًا بموسيقا “كارمينا بورانا” التي أبدعها “كارل أورف” عام 1937، وكأنها تُعزف الآن أمامه بكامل بهائها الأسطوري، وحواس “آريز” ترتفع فوق السلم الموسيقي، تطل على “جوبر” و”عين ترما”، لتبشره باتساع عرشه سبع مدنٍ أخرى،  ويتراءى له طيف “ديموس” و”فوبوس”، رفاقُ الحربِ القدماء، وهما يقتربان منه، مطالبين بحصتهما من غنائم الركام والعدم، حتى إن “إينيالوس” الصغير ترك جبل “الأوليمب”، وجاء ليتذوق سبعَ نكهاتٍ للغبارِ السوري، ويتعلم سبعةَ طرقٍ جديدة لطهو جثثِ الأبنية، ثم يحضر “كيدويموس”، و”بوليموس”، وكأن “آريز” يدون ملحمته الأخيرة على صراخ “آلالا”، قبل أن يسمح لأخته “هيبي” بأن تصب له الماء ليغتسل فوق عرشه الجديد، في مملكته الجديدة، التي أرادَ أن تحمل اسمه “آريز إلى الأبد”.

* * *

معنى “ديموس” هو الرعب، ومعنى “فوبوس” هو الخوف، وهما رفاق “آريز” في حروبه. أما “إينيالوس” فهو إلهُ الحرب الصغير، وكان يرافق “آريز” أيضًا، وربما كان يُستخدم كلقبٍ لآريز في مراتٍ عديدة. وغالبًا لا يقاتل “آريز” إلا بصحبة “كيدويموس” وهو نصف إلهٍ، ويمثل صوت المعركة بكل تفاصيلها. كما يحضر “بوليموس” في معارك “آريز” كروحٍ ثانوية، وربما كان أيضًا أحد ألقاب “آريز” العديدة، فيما تتجسدُ صرخة الحرب الإغريقية في الآلهة “آلالا” ابنة “بوليموس”، ولطالما استخدم “آريز” اسمها كصرخةٍ للحرب، تاركًا لأخته “هيبي” دور من يصب له الماء ساعةَ الاغتسال.

مقالات ذات صلة

إغلاق