للمفارقة، فإن المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، يشبه وليد المعلم وزير خارجية النظام السوري، في شكله وطريقة حديثه التي تتسم بالبطء والتذاكي والكذب، وهو بدأ كلامه في جلسة مجلس الأمن التي عقدت، على إثر مجزرة الكيمياوي في دوما التي شاركت فيها روسيا مباشرة أو من خلف ستار، بتاريخ 7 نيسان/ أبريل الماضي، بالقول: إن كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا يقومون باتباع نهج عدواني سافر ضد روسيا وسورية، إنهم يهددون روسيا بلا حياء، والنبرة التي تلجأ إليها هذه الدول تجاوزت كل الحدود المسموح بها، حتى في فترة الحرب الباردة، لم يجرؤ أسلافهم على مثل هذه الوقاحة تجاه بلادي. وأضاف: لم يتم العثور على أي جثث أو مصابين بمادة سامة في دوما، ولا أثر لاستخدام الكيمياوي فيها.
أما بشار الجعفري، مندوب النظام السوري الدائم لدى الأمم المتحدة، فقال بكل هدوء، ودون أن يرفَّ له جفن: إن الكذب الذي تمتهنه بعض الدول دائمة العضوية في هذا المجلس، أصبح بمثابة أحد أسلحة الدمار الشامل، وفي كل فصل مسرحي حول الاستخدام المزعوم للمواد الكيمياوية، نلاحظ أن هذه المواد لا تصيب المسلحين مطلقًا، بل تستهدف الأطفال والنساء، وأنها لا تحتاج إلا إلى غسيل بالماء أمام عدسات الكاميرات، وإن دعوة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لعقد هذه الجلسة تأتي في إطار دعم الإرهابيين، لكنهم تأخروا. في خطابه الأول بعد الثورة، قال الأسد تعليقًا على مقاطع الفيديو التي رصدت قتل المتظاهرين: إنها مفبركة، ومن فبركها ومن يروجها يكذب، ويعرف أنه يكذب، وسيظل يكذب حتى يصدق نفسه.
وفيما يبدو، فإن كلامه كان مقدمة لنهجٍ سيستخدمه هو وأركان نظامه وآلته الإعلامية، طوال فترة قمعه للثورة بصورة همجية تعصى على الخيال، تناست بثينة شعبان مستشارته السياسية، أو نسيت، إنكار النظام لوقوع مجزرة الكيمياوي الأولى في الغوطة أيضًا عام 2013، فعلّقت على الحدث قائلة: إن العصابات الإرهابية في الغوطة خطفت مئات الأطفال من الساحل السوري، وجاءت بهم إلى الغوطة، وأبادتهم بغاز السارين. مندوب روسيا في مجلس الأمن رفع يده ضد إصدار قرار يسمح للجنة التحقيق الدولية، بمتابعة العمل لإنجاز تقريرها حول المجزرة. بشار الجعفري في مجلس الأمن قال: إن الأحد عشر ألف صورة لضحايا القتل تحت التعذيب، التي جلبها “قيصر” معه من سجون سورية، مفبركة، وكان (قيصر) قد عرض بعض الصور أمام أعضاء الكونغرس الأميركي، في اليوم الأول من شهر آب/ أغسطس عام 2014.
وقيصر، هو الاسم الذي أُعطيَ لمصورٍ في الشرطة العسكرية السورية، انشق وهرب خارج البلاد ومعه 55 ألف صورة لـ 11 ألف ضحية تم تعذيبها في سجون النظام السوري حتى الموت. وبناءً على طلب رئيس اللجنة أيد رويس بعدم عرضها جميعًا نظرًا إلى بشاعتها، فقد تم عرض أربع صور فقط تظهر آثار تعذيب رهيبة منها قطع أطراف، وإعدامات وتجويع حتى الموت، وحرق وقلع للعيون. قيصر في مستهل شهادته قال: إن التعذيب كان منهجيًا وعلى نطاق واسع وشمل أطفالًا ونساءً وشبابًا وعجزة من العلويين والمسيحيين والدروز والمسلمين.
قال قيصر أيضًا: إن الأوامر جاءت من أعلى مستوى في القيادة السورية، وكانت الجثث تحضر إلى قاعدة عسكرية في دمشق لكل الضحايا من كافة أنحاء سورية. وقال ديفيد كرين من جامعة سيراكوز، وهو شاهد ذو خلفية حقوقية، إن الصور حقيقية وتم التأكد منها، وإنه تفاجأ بحجم التعذيب، قائلًا: لم أر صورًا للتجويع والتعذيب الرهيب، منذ صور معسكرات النازيين في أوتشفتس.
في الإعلام السوري، وبعد أيام من بدء الثورة، ظهرت مجموعة من المسلحين متخفين وراء جدار قصير يطلُّ على المتظاهرين قريبًا من المسجد العمري في درعا. كان المسلحون يطلقون النار من هناك على المتظاهرين، هكذا وصف مذيع قناة “الدنيا” المشهد، والملفت أن أولئك المسلحين لم ينتبهوا إلى الكاميرا وكادر التصوير الذي كان لا يبتعد سوى أمتار عنهم!! والغريب أن النظام اتهمهم بقتل إخوتهم، وفي الوقت نفسه، بالتصدي للجيش العربي السوري!! وفي مشهد آخر من داخل المسجد العمري، كانت عشرات الرشاشات الروسية والقنابل اليدوية مرصوفة إلى جانب بعضها، بعدما استطاعت قوات الجيش الوصول إلى المسلحين وقتلهم!! ولقد أجريتُ مقابلة مع الشيخ أحمد الصياصنة خطيب المسجد العمري، عندما زار أميركا قبل ثلاثة أعوام، وسألته ما قصة الأسلحة المخبأة تحت المسجد العمري؟ فأجاب الشيخ الذي تجاوز السبعين: لا يوجد في المسجد مكان تحت الأرض، وليس فيه مكان معزول، ولم يكن أحد في كل درعا وريفها يقتني سلاحًا، إنهم يكذبون دائمًا، لقد أجبروني تحت التهديد بقتل ابني الثاني، بعد أن قتلوا الأول أن أوافقهم على تلك الكذبة الشنيعة أمام الكاميرا، ولو لم أفعل؛ ما كنت هنا الآن، ولا كان ابني على قيد الحياة.
سياسة الطغاة عبر التاريخ متشابهة، فهم يرتكبون الفظائع، ثم يظهرون أمام الإعلام محاربين شجعانًا ضد الإرهاب المزعوم. قال هتلر: إن كذبت مرة واحدة فقط، فلن يصدقك الناس بعدها. لا بدّ أن تستمر في الكذب حتى يصدقوك وتصدق أنت كذبتك. لكن بوتين ولافروف وفاسيلي نيبينزيا، كما الأسد والمعلم والجعفري، وصلوا إلى مستوى من الكذب وإنكار الجرائم الفظيعة، لم يسبقهم أحد إليه من قبل. وبات خيار التصدي لهم بالقوة مطلبًا إنسانيًا قبل أن يكون خيارًا أميركيًا، في ظل عجز مجلس الأمن بصيغته الحالية عن إنقاذ بقية الشعب السوري من طغاة العصر: بوتين والأسد.