في السابع عشر من نيسان/ أبريل 1946، تمّ جلاء الجيوش الفرنسية من سورية، ونهاية مرحلة الانتداب التي استمرت نحو 25 عامًا.
الجلاء تتويج لنضالات وثورات وتضحيات الشعب السوري، وترجمة للروح الوطنية العالية التي تمثّلت في الكتلة الوطنية وشخصياتها التاريخية التي قادت مرحلة الكفاح لتحقيق الجلاء التام، وسيادة الدولة السورية.. وتكريس النظام الديمقراطي الذي حوّل سورية، عبر بضع سنوات، إلى دولة متطورة تنافس العديد من الدول في العالم، وتترك بصمتها الخاصة في الأمة العربية، ومجموع حركات التحرر الوطني والقومي، وعلى الصعيد الآسيوي والأفريقي.
لم تتوقف ثورات وانتفاضات الشعب السوري، وحين أجمع السوريون على أن يتولى سلطان باشا الأطرش قيادة الثورة السورية، كانوا يوجهون أكثر من رسالة داخلية وخارجية، أهمها قوة الوحدة الوطنية، واصطفاف أغلبية الشعب، بمختلف فئاته ومكوّناته، في خندق مجابهة المستعمر، وتحرير البلاد منه. وبتلك الروح، أيضًا، جرى إسقاط محاولات تقسيم سورية إلى أربعة كيانات، حين ارتفعت الرايات الداعية إلى وحدة سورية من جبل العرب، إلى جبال العلويين، ومن حلب إلى دمشق، معلنة رفض أي تقسيم، وإجبار فرنسا على التخلي عن مشروعاتها تلك.
كان الجلاء موعدًا لانعتاق السوري وإظهار إبداعه وتميّزه في عموم الميادين، وعلى الرغم من هموم القضية القومية وتكلفتها، وبخاصة اغتصاب فلسطين وما شكلته المواجهة مع الصهيونية من استنزاف للاقتصاد، وضرورة تضخّم الجيش بكل الآثار التي نجمت عن ذلك، في سلسلة الانقلابات العسكرية التي كانت تقطع المسار الديمقراطي ولو لوقت قصير، فإن تلك التجربة الديمقراطية، على كل النواقص، كانت أنموذجًا حققَ نهضة صناعية وزراعية وثقافية وسياسية، ومكّن سورية لتكون بحقّ قلب العروبة النابض، والمحرك الرئيس لخط التحرر والاستقلال والوحدة القومية، وتتويج ذلك بالوحدة السورية المصرية، وما عقد عليها من آمال أن تصبح نواة الوحدة العربية الشاملة، وسقوط تلك التجربة بتضافر عواملها الداخلية وثقل التآمر الخارجي، وغياب العمل الوحدوي من تاريخه، لدرجة أن الدولة القطرية، حتى بالنسبة إلى أشباه الدول التي قامت، عرفت تعضدًا لعقود طويلة، فشلت فيها في حل إشكالاتها الداخلية ومواجهة التحديات، لتصبح مهددة بمزيد من التفتيت.
سورية اليوم محتلة فعليًا، وتتعرّض لتدمير شامل، أساسه وجود نظام فئوي، حاقد آثر الحكم والبقاء، ورفض أي حلول سياسية، ولو على جماجم السوريين وخراب البلاد؛ ما أفسح المجال لكل أنواع التدخلات الخارجية، ومزاحمة وتنافس المشاريع الخارجية، وهي تقيم مناطق نفوذ خاضعة لهذه الجهة أو تلك، في حين توغلت إيران كثيرًا في نسيج المجتمع السوري ووحدته الوطنية، بزرع وتنمية صراعات عمودية مذهبية بديلة للصراع الطبيعي مع النظام، فكانت تلك التفريخات متعددة الأشكال، ومنها الأسلمة التي أرادت أن تسوق الثورة إلى غير مسارها الطبيعي، وذلك التعدد الفصائلي وتناحره، وفقًا لمشيئة الدول الممولة، والقابضة على القرار، تضافرًا مع خذلان المجتمع الدولي للشعب السوري، وعدم القيام بدوره المفروض، لاستدامة النزيف السوري إلى درجة تدمير بنى الدولة، وتهجير ما يقرب من نصف سكان البلاد، والتلاعب بمصير البلاد في ظلّ غياب الحل السياسي العادل الذي يمكّن الشعب من إدارة شؤونه، وتقرير مصيره.
الوطنية السورية العريقة أسيرة المتغيرات المتلاحقة، وما فعلته عقود الاستبداد والإخضاع والتطييف بها، وأيضًا نتائج الرهانات الخلبية، والتعقيدات التي حدثت بعد الثورة، حيث تبدو اليوم خارج المعادلة، وعلى هامش القرارات المتعلقة بمصير البلد، حيث جرى التدويل فعليًا، وباتت المسألة السورية بين أقدام الدول الفاعلة، اللهم، سوى الحاجة إلى واجهات معارضة، لا بدّ منها حين حصول تسوية ما.
اليوم، بعد خسارة الغوطة الشرقية، وقيام دول من حلف الأطلسي بتوجيه ضربات مركزة لمنشآت لها علاقة بإنتاج السلاح الكيمياوي، فإن وضعًا جديدًا يرتسم بسلبه وإيجابه، والذي يقتضي التعامل معه بمنهج يختلف عن الفترة السابقة.
اليوم، الوطنية السورية مدعوة إلى الاصطفاف في خندق واحد؛ لمواجهة التطورات من جهة، والدخول على المعادلة بوضع يتيح للسوريين أن يكون الطرف الفاعل، وليس المتلقي.
نعم، ظروف الجلاء تختلف كثيرًا عمّا هي عليه اليوم؛ كان هناك مستعمر أجنبي يحتل البلاد، ويدفع أغلبية الشعب إلى الوقوف ضده، وحمل السلاح دفاعًا عن الوطن ولأجل تحريره، كما أن الوضع السياسي اليومَ غيره تلك الأيام، حيث كانت مرحلة الصعود القومي والوطني، ووجود شخصيات بارزة بدورها وعطائها ضمن تكتل واسع، بينما واجهت الثورة عدوًا داخليًا، أشدّ فتكًا من الخارجي، له قواعده الشعبية، ولديه خبرات طويلة في الحكم والأمن والخبث، وعنده حلفاء مخلصون، وميليشيات طائفية أوقفت انهياره، ومن خلفها إيران التي أعلنت جهارًا أنها من أنقذ النظام من السقوط، وصولًا إلى الاحتلال الروسي الذي يتباهى بأنه هو الذي منع تهاوي النظام، ثم تغوّل المشروع الروسي ومحاولته الاستحواذ على الملف السوري بغياب أميركا والمجتمع الدولي.
اليوم، وعلى الرغم من وجود مئات الأحزاب والحُزيبات والتشكيلات والتيارات والأسماء التي تعجّ بها الساحة السورية، وآلاف منظمات المجتمع المدني، وهيئات للثورة معترف بها دوليًا، فإن الافتقار إلى التنسيق، والقيادة الموحدة يجعل جهود الجميع مبعثرة، ولا تصبّ في مجرى الثورة بشكل طبيعي.
سورية بحاجة اليوم إلى استلهام روح الجلاء، ومواقف تلك الشخصيات والقامات الوطنية التي قادت تلك المرحلة بمزيد من الوحدة الوطنية، والتماسك، وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، وجعل الوطن الحر المستقل هو الغاية، والشعب سيد القرار.