بينما كنت خارجًا لشأن من الشؤون، وقد شغلت رأسي الأفكار والظنون، مخافة أن تترصدني الآذان والعيون؛ إذ ساقني الطريق إلى ما لا أهوى ولا أطيق، فرأيتني أسير في مكان، لم يكن لي بالحسبان. أشجاره وارفة الظلال، وقطوفها صعبة المنال. تجمّع فيه بعض الجنود، وتشمّرت فيه الزنود، وارتفعت فيه البنود. فويل لأصحاب الأخدود. عند ذلك أحجمت عن المسير، وأنا لا أدري كيف أسير، وماذا ينتظرني من مصير، فتعوّذت بالله العليّ القدير. وبينما أنا بين أخذ وردّ، وإقدام وصدّ، أقبل عليّ واحد من الجند، الغضب بادٍ عليه، والشرر يتطاير من عينيه. وبادرني باللوم والتقريع، بأسلوب فظ فظيع: ما الذي أتى بك في هذا الأوان، وكيف تجرأت على اقتحام هذا المكان؟! أأنس أنت أم جان؟! فداريت الخيبة والارتباك، وتلفّت بين هذا وذاك، وأدركت أن القوم في حالة اشتباك؛ فتراجعت معتذرًا، وانتحيت مستترًا، واتخذت مكانًا بحيث لا يشعرون، وأنا في غاية الفضول لمعرفة ما يفعلون. ورأيت والعياذ بالله، أمرًا لا يحمد عقباه. رأيتهم يسحبون جسمًا طويلًا طويلًا، ويوسعونه لثمًا وتقبيلًا. كأنهم يودعونه، قبلما يرسلونه. ثم يدفعونه بمزلاج من الحديد، فيذهب إلى البعيد البعيد، محدثًا صوتًا كالرعد، يذهب بالعقل عن بُعد. له هدير كهدير الجمال، وقوة تهدّ الجبال. فوقعت من وجلي، وأحسست بدنو أجلي.. وبينما أنا على هذه الحال، وأمامي يتراءى ألف احتمال؛ إذ قام أحدهم ساعيًا، وإلى ربه داعيًا، ورفع صوته الجهوري، وأطلق دعاءه التعبوي: اللهم احصرهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا. فهالني ما سمعت، وعلى هدير صوته استيقظت، وتقدّمت منه سائلًا، وتوجهت إليه قائلًا: من بندائكم تقصدون؟ وإلى أين بصواريخكم تتجهون؟ فأخذ يبسط لي الحكاية، مبتدئًا من البداية:
كان ياما كان، في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، كان في غوطة الشام الشرقية، من دوما إلى سقبا وحمورية، يعيش الناس بسلام، وتسود بينهم المحبة والوئام. يؤدون ما عليهم لملك الشام، دون تذمر ودون خصام، وحين أراد لهم الله أن يرفسوا نعمتهم، ويفكون عهدتهم، أرسل إليهم من وسوس في رؤوسهم، وتغلغل في نفوسهم، وأقنعهم أنهم مظلومون، ومن حقوقهم محرومون، فهبوا يطالبون بالحقوق، ولم يعلموا أن هذا مروق، وعليهم طاعة مولانا، الذي أماتنا وأحيانا، إذ أنكروا نعمته، وعصوا مشيئته، فذنبهم كبير، وجزاؤهم عند مولانا عسير، فأمَر مولانا أن يُسحقوا سحقًا، وأن يمحقوا محقًا، ونحن لأمره منفذون، ولمشيئته طائعون، فإما أن يعودوا إلى رشدهم، ويجددوا عهدهم، وإلا فالموت لصغارهم قبل كبارهم، ولنسائهم قبل رجالهم. لن نبقي لهم على أثر، وسنجعلهم عبرة لمن اعتبر، فليخرجوا من هذه الديار، وليولوا الأدبار، وليتجهوا إلى إدلب الخضراء، التي ستصبح بإذن الله حمراء. بمساعدة أصدقائنا الروس، وحلفائنا المجوس.
واستشهد بقول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تـجد ذا عفــة فلعلة لا يظلــــــــم
- اللوحة للفنان السوري طلال أبو دان