في القرن الخامس قبل الميلاد، كتب المؤرخ الإغريقي ثوسيديديس معلّقًا على حصار “ميلوس”، والثمن الذي دفعه سكانها بسبب مقاومتهم سلطة أثينا: “الأقوياء يفعلون ما يستطيعون، والضعفاء يعانون ما يجب أن يعانوا”.
يخبرنا التاريخ الحديث عن وقائع مماثلة، استغل الأقوياء فيها ضعف ضحاياهم، فشرّعوا قوانين لقتلهم وإبادتهم، بمبررات لم تكن تتميز عن بعضها. اليوم علينا أن نُسَلم بهذه الحقيقة القديمة؛ ففي عام 1925 قصف الجنرال الفرنسي موريس ساراي دمشقَ والغوطة بالطائرات والمدافع، وبرر هجومه على المدينة وريفها، آنذاك، بأنه يواجه “عصيانًا مسلحًا، تقوده عصابات محلية، طائفية، زرعت الخوف والرعب وعدم الاستقرار بين السكان”.
عندما استهدف بشار الأسد بين عامي 2018/2013، الشعبَ السوري، في المدن والبلدات التي انتفضت قبل تسعة عقود ضد الاحتلال الفرنسي، بالطائرات والصواريخ، وأضاف إليها السلاح الكيمياوي، برر الهجمات بقوله: إنه يواجه “إرهابًا عالميًا، طائفيًا”، يهدد أمن نظامه، وعليه أن يحفظ سلامة وأمن البلاد.
على الدوام، تشكل الهيمنة والتسلط والإكراه، الزنادَ الذي يقدح شرارة الثورات. لكن، ما يراه “القتلة” تمردًا أو عصيانًا ضد نفوذهم، ليس في الحقيقة سوى ثورات شعبية، أو انتفاضات محلية، كانت تصطدم بمن يشوه صورتها، ويصطنع الذرائع لمواجهتها، ثم سحقها بسلطة القوة المهيمنة، وأدواتها المتوحشة.
اتّبع الجنرال هنري غورو الذي احتلت قواته سورية في عام 1920، نهج العقوبة الجماعية، كأسلوب لمواجهة من حاولوا صد جيوشه. ومنذ أن سيطرت دباباته على دمشق؛ حكَم المجلس الحربي بإعدام وإسقاط حقوق ومصادرة أملاك عشرات السوريين، وهددت الحكومة التي شكّلها (برئاسة الدروبي) زعماءَ المجتمعات المحلية، بمعاقبة السكان وأفراد العشائر والقرى، بإعدامهم جماعيًا، إذا ما وقع ضمن حدودهم ما يعكر صفو الأمن، أو ما يحرض على العصيان والتمرد.
بخلاف ما أورده بيان الاحتلال الشهير: “عدم رغبة الفرنسيين في استعمال الطائرات لمقاتلة الأهالي العزل في سورية”، استخدم الجنرال ساراي، لاحقًا، الطائرات؛ فقصف المدن الثائرة بعنف غير مسبوق، وأحرق حواضن الثورة، وقتل السكان تحت أنقاض البيوت.
تكشف محنة السوريين التاريخية، بين عهدين، وتجاوزها حدود المعقول، طبيعةَ المذهب الوحشي، كقاسم مشترك، بين جنرال مستعمر، استخدم قوته الجوية والبرية، لإخماد ثورة كانت ترمي إلى التحرر من سلطة الأجنبي، وبناء دولة ديمقراطية مستقلة ذات سيادة. وبين الجنرال “الأسد” الذي تشن قواته حرب إبادة، ضد شعبٍ قرر أن يستعيد حريته، ويتخلص من طغيان واستبداد نظام سياسي حاكم، تحكّمَ بمصاير الناس، ودفعهم نحو المقاصل.
يصف جندي فرنسي التطابقَ المثير بين المشهدين، في رسالة خاصة بعثها إلى صحيفة (لومانيتيه) الباريسية، يقول فيها: “اقتحمنا قريتين رفضتا الاستسلام. سأصف لكم كيف نتصرف في مثل هذه الهجمات، التي هي أشبه بهجوم مجرمٍ مسلحٍ على إنسان أعزل. في البداية نقصف القرية من بعيد بالمدفعية، لحمل السكان على الفرار، ثم نقتحم القرية، وبالطبع نطلق النار على من لم يتمكن من مغادرتها، أو من لم يرغب في ذلك. ثم ندخل القرية الخالية، فننهب ما يمكن نهبه، ونضرم النيران فيها. هذا ما فعلناه في القريتين المذكورتين”. ويضيف: “في طريق العودة، صادف جنود السرية الثالثة رجلًا أعزل ترافقه ابنته، فقتلوه، بالرغم من توسلات الفتاة بالإبقاء على حياة والدها. لا تصدقوا الصحف التي تكيل المديح لتسامح قواتنا”.
يُعدّ “التطهير والقتل الجماعي” جريمةً ضد الإنسانية. وهو بحسب القانون الدولي، “سياسة مقصودة، تنفذ بواسطة القتل والتعذيب والاعتقال التعسفي والاحتجاز، وعمليات الإعدام بلا محاكمة والاغتصاب والاعتداء الجنسي، وحصر السكان المدنيين في مناطق معزولة، واستخدام القسر في ترحيل المدنيين وتشريدهم وإبعادهم، والهجمات العسكرية المتعمدة، أو التهديد بالقيام بها ضد المدنيين والمناطق المدنية، والتدمير العشوائي للممتلكات”.
لقد ارتكب الأسد كل ذلك، بل أكثر منه بكثير. وقَدّم للبشرية في حربه نموذجًا مطلقًا للوحشية العامة، لم يكن محل شك أحد.
إننا نخدع أنفسنا، قبل أن نخدع الآخرين، إذا ما لجأنا إلى تفسيرات سهلة -كما يروج عادة أنصار الديكتاتورية- تبرّرُ الوحشية التي جوبهت بها انتفاضة السوريين. ومع أن الأمر يبدو أكثر تعقيدًا مما سبق، فإن سجلات الحرب تثبت أن الذئب الجريح، الذي تعامل مع شعبه بوحشية منقطعة النظير، ومارس إبادات منظمة، وعقوبات جماعية، لم تختلف حربه عما جرى على يد جنرالات فرنسا. ولم تكن مصادفة أن تتطابق تكتيكاته في إبادة الثورة وحواضنها المدنية، مع التكتيكات التي استخدم فيها الجيش الفرنسي العقوبة الجماعية، وسياسة الأرض المحروقة، لإخضاع الثورة، أو المساومة على ولائها، أو إخمادها بشكل نهائي.