لم يكن إلا هو، ذاك المتمرد، الذي شقّ الثبات والتقليد ملوّحًا للفجر، بعد أن أقلقه البحث عن مفرداته المضيئة، وراح يخطفها من ثغور أمهاتها، وهي تقبّل كاس خمرته المنتشي، ويهتف كمن أخذته سحابة غلو وابتهاج بما أنجزه، من بهجة الفوز، وغذته روح إضافية امتصّها من جوف غريمه، وما غريمه سوى دنّ خمر هامد ملقى، بعد أن لفظ آخر أنفاسه بين يديه، ودفع بحشاشة روحه إلى روح النواسي، ومن غير النواسي يشيع الحركة ويقيم علائق جدلية، يتفاعل طرفاها ويتبادلان المادة الحية والروح المعنوية، ليصنع ملحمة في سطرين، من شعر لحظته المقبوسة بنور التوهج والتوق إلى مجاهيل، ظلّ يحاولها ويفك رموزها، مفتشًا بها ومن خلالها عن شعلة الأولمبياد، إنه برومثيوس المتعربش على سلالم الضوء، والقادح لكل عتمة، حتى عتمة روحه، زنادها، ولأرواح ترمدت في عتمة الماضي الساكن البليد.
ما زلتُ أستلُّ روح الدنِّ في مهل وأستقي دمه من جوف مجروح
حتى انتشيتُ ولي روحان في جسد والـدنُّ منطرحٌ جسـمًا بـلا روح
إنها روح التجدد والانبعاث، عند هذا الخِلاسي كيانًا، من زواج أب دمشقي عربي بأم فارسية، والخِلاسي ثقافةً، من معلمين وأساتذة أقاموا على تعليمه وتثقيفه، مكبرين حدة ذكائه وشدة مراسه ونباهة قريحته، حتى إذا شارف الثلاثين من العمر، وقد أكمل الطواف في بلاد العلم والمعرفة؛ استقرّ به المقام في بغداد عاصمة النور آنذاك، ففتحت أمام موهبته ردهات القصور، وأمام طرافة حضوره وسريع بديهته، جلسات هارون الرشيد، وابنه الأمين من بعده، فتناقلت العامة كثيرًا من طرائفه، بعضها صحيح النسبة والآخر مؤلف عليه، ولعلّ من أطرف ما روي عن سرعة بديهته وحسن تخلّصه، أنه خرج من قصر الرشيد، بعد جلسة منادمة وشعر، خاوي الوفاض، فكتب على الجدار بيتًا من الشعر، يقول فيه: (لقد ضاع شعري على بابكم/ كما ضاع عقد على خالصة) وخالصة عبدة سوداء، فنقل الوشاة الخبر إلى هارون الرشيد، فطلبه ففطن إلى بيت الشعر، ومرّ به في طريقه إلى الخليفة، ومحا ذيل العين لتصبح همزة، فصار البيت: (لقد ضاء شعري على بابكم/ كما ضاء عقد على خالصة)، وعلم الخليفة بالأمر وضحك وعفا عنه.
اقترن اسم أبي النواس (أبو الحسن بن هانئ الحكمي) بخرق التقاليد الفنية البالية والدعوة إلى التجديد الأعمق والأسبق والأهم في الشعر العربي القديم آنذاك، حين كان الشعر، لم يزل متسربلًا بأغلال عمود الشعر وبأطلال الجاهلية الموروثة، فاندفع أبو نواس هو وشعره ومجمل علاقاته، في طريق التمرد والثورة، وككل المبدعين المجددين، كثر حساده والمسيئون إليه، ومن حاولوا إلحاقه بقائمة من قتلوا من الشعراء، تحت تهمة الزندقة والمجون، كبشار بن برد وابن المقفع وغيرهما، ولكنه نجا وعاش حياته وتوفي في الرابعة والخمسين، بعد أن قال شعرًا في الزهد والحكمة، ظلّ أقرب إلى الاعتذار الذاتي، عن غلو الشباب ومجونه وتشاوفه، ليس على مجايليه فحسب، بل على سابقيه من الشعراء، وعلى تقاليد الشعر العربي عامة، طارحًا ريادته لمذهب، لم يستطع أن يجعله نهجًا متبعًا، وسنة بديلة، ولكنه وجه ضربات قاسية لعمود الشعر المتبع، وسخر من عادة البكاء على الأطلال، بأبيات وقصائد متعددة، منها: عاج الشقيّ على رسم يسائله/ ورحتُ أسأل عن خمارة البلد.
أو قوله: لا تبكِ ليلى ولا تحزن على هند/ واشرب على الورد من حمراء كالورد
لقد تمتع أبو نواس بكل مؤهلات الشخصية المتمردة الثائرة، من ثقافة ثرية متعددة الأبعاد، وقد تتلمذ أولًا على الخلاعي المتهتك والبة بن الحباب الأسدي الكوفي، ثم صاحب عددًا من الماجنين، كمطيع بن إياس وحماد عجرد، وأخذ اللغة من بادية بني أسد من منابعها الأصيلة، ثم عاد إلى البصرة وتلقى العلوم على يد علمائها، ولم يدخل في مندامة الرشيد إلا بعد أن امتلك ناصية اللغة والأدب ومختلف العلوم الإنسانية والإسلامية، وقد اضطر الرشيد إلى حبسه مرارًا، بسبب ما يظهره من المجون والتهتك، وكذلك كان حظه مع الأمين الذي اتخذه نديمًا، فأشاع الحساد الشبهة، بدفع من أنصار المأمون وفي حمأة الصراع الدائر بين الأخوين وحاشيتهما.
كان طبيعيًا ألا يشعر أبو نواس وشعراء الحواضر والمدن، بالضرورات الفنية والنفسية لديباجة القصيدة الجاهلية، فعلى حين احتاج الشاعر البدوي، إلى إشراك المتلقي بهمومه وعواطفه ومشاعره وأحاسيسه، وشعر بأهمية تقديمه صورة عن فتوته وغرامياته وذكرياته، وذلك لما للغزل والنسيب وحضور المرأة العاطفي من تعديل إيجابي، في مزاج المتلقي الأمير أو الحاكم المرتجى، وتمليحه وإدهاشه وإثارة كوامنه، وهذه كلها كانت ضرورات فنية وحاجات نفسية عند البدوي الشاعر، ومؤثرات مساعدة في خلق الصورة الإيجابية عند المتلقي، وتسهيل وسلاسة استقباله، وصولًا إلى المقر النهائي، ومعظمها كان قد فقد ضروراته.
لقد ظلّ أبو نواس قائدًا غير معلن لثورة فكرية فنية ذات أبعاد اجتماعية سياسية، يؤرقه البحث عن الحرية ومعنى الحياة الإنسانية، المنتهكة بالقمع والظلم والتسلط، فدعا إلى التمعن في معانيها وفلسفتها ومراميها، وعدم الاكتفاء بظواهر الأشياء وسطوحها، ولكونه مغردًا في غابة مقطوعة الظلّ، ولخوفه من مصير من سبقوه؛ لاذ بحريّة فردية وجودية متطرفة، طبعت معظم أشعاره، ولا سيما خمرياته. وأمام يأسه من إمكانية نجاح دعوته والانتقال إلى نهج جديد، ومع مقاومة كثير من دارسي الأدب والمحافظين؛ ذهب إلى انتهاكها في ليالي أنسه ولهوه ومجونه، وأطلق شاعريته بلا تحفظ على سجيتها، ليبوح بأخطر وأهم ما واجه الشعر العربي من نقد لاذع حتى ذلك الزمن.
ومن طريف ما نسبه بعضهم إليه، وبالإشارة إلى اعتداده بشاعريته، أنهم رأوه في المنام ميتًا، فسألوه: ما فعل الله بك في موتك؟ فأجاب: لقد غفر لي بأبيات قلتها، في التوبة والاستغفار:
يارب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
أدعوك رب كما أمرت تضرعًا فإن رددتَ يدي فمن ذا يرحم
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ومن طريف قوله في الخمرة وترك الصلاة:
دع المساجد للعبّاد تسكنها وطف بنا حول خمّار ليسقينا
ما قال ربك ويلٌ لمن سكروا ولكن قال ويلٌ للمصـلـيـنا
إنّ هذا الحذف من الآية كان يمكن أن ينيله خناجر الغيارى على الدين، في عصرنا.