“الخوف من الحرب أسوأ من الحرب نفسها. فأولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى”. خُلق الإنسان، وغريزة البقاء وحب التملك شعوران يسيطران عليه، ويلازمانه حتى وقتنا الحاضر. ولذلك ما الأمل إلا صراعنا من أجل البقاء.
في مجتمعاتنا الحديثة، يعيش الإنسان أزمة وجود واستقرار، أساسها الصراع الدائر بين الأقوياء وبين الضعفاء، ولعل مسببات هذا الصراع عديدة، فقد تكون عقائدية أو اقتصادية أو تاريخية أو غيرها.. الأمر الذي جعل المختصين في ميدان علم النفس والاجتماع يختلفون بشأن طبيعتها وأسباب حدوثها.
عندما نعود إلى منطقتنا العربية المضطربة منذ قرون؛ نجد أن التفكير في الأسباب ينصب نحو الغرب، إذ يرى معظم سكان المنطقة أنه قادم للسيطرة على المقدرات العربية، بعدّة أشكال.
لكن تقاليد مجتمعنا وتربيتنا، والأزمات التي يعيشها إنساننا، تولِّد لديه العديد من عوامل القهر النفسي، وعدم الثقة والرهاب والخوف؛ فيكون التفكير الذاتي والرضا بالقليل من المطالب المهمة له، وبسبب ذلك يختفي الإبداع والتطور..
بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ استطاع علماء النفس، من خلال العديد من الدراسات، أن يميزوا بين أنواع من الاضطرابات النفسية، كان أهمها ما يسمى “اضطراب ما بعد الصدمة“، وهو الأكثر شيوعًا في وقتنا الراهن.
قبل أن أتحدث عن هذا المرض، لا بدّ من وصف السلوك السويّ أو السليم أو العادي لدى الآخر؛ حتى يكون مدخلًا لفهم السلوك المرضي أو الشاذ. وعلى الرغم من صعوبة وصف ذلك السلوك وصعوبة الحكم عليه، فقد حدد العديد من المهتمين أربع فئات من السلوك، بعد النجاح في العلاج النفسي، وهي:
1- النضوج والمهارة في تكوين علاقات اجتماعية انفعالية.
2 – التوافق مع العمل أو المهنة أو ما يسمى الفاعلية في أداء دوره المهني بشكل جيد.
3 -التوافق مع الذات، من خلال تعلّم العديد من الخبرات الجديدة، وتوظيف الإمكانات الفريدة، لتحقيق الإشباع المعنوي والجسمي وغيره.
4- قدرة الفرد على أن يتبنى لنفسه فلسفة عامة في الحياة، تسمح له بأن يتصرف بكفاءة ونجاح.
على ذلك؛ فإن اضطراب ما بعد الصدمة يصيب بعض الأشخاص الذين مروا بحادث أو تجربة صادمة أو مخيفة أو خطرة، إلا أن معظم المصابين يتعافون، ولكن قد تستمر الأعراض وتتفاقم، في حال استمرار الظروف المقلقة وغير المطمئنة.
إن الأحداث المؤلمة وفواجع الفقدان هي من الأمور الشائعة في حياة الناس، وإنّ اضطراب ما بعد الصدمة كثيرًا ما يترافق مع مشكلات نفسية أخرى مثل الاكتئاب. وقد تبدأ الأعراض مبكرًا بعد الصدمة، خلال فترة ثلاثة أشهر، وقد تتأخر حتى أكثر من سنة، وتستمر الأعراض لأكثر من شهر، وتؤثر في حياة الشخص.
أما أعراضه، فتكمن في استرجاع الحدث المرعب Flashback))، وتصاحب ذلك أعراضٌ جسدية مختلفة: خفقان القلب، كوابيس، أفكار مخيفة، الانفعال السريع، التوتر، مشكلات في النوم، نوبات غضب، أفكار سلبية تدور في ذهن الشخص عن نفسه أو العالم، الشعور بالذنب أو اللوم، فقدان الاهتمام بالأنشطة الممتعة، اكتئاب..
تتركُ الحروب آثارًا عديدة أكثر تعقيدًا وعمقًا مما نتخيل، تتعدى كونها آثارًا جسدية أو عضوية، وتمتد إلى الآثار النفسية والعقلية، التي قد تبقى وتمتد سنين طويلة، حتى بعد أن تشفى الجراح وتختفي. وليس غريبًا مع ما يمر به عالمنا العربي من حوادث، خلال العقود الأخيرة، وجود آثار واضطرابات نفسية لدى الآلاف من الأشخاص.
تبدأ الآثار العميقة في غالبية الحالات بتطور الاضطراب النفسي المعروف بـ “اضطراب ما بعد الصدمة” أو “Post-Traumatic Syndrome Disorder” الذي يترافق مع عوامل وأعراض تسهل ملاحظتها وتمييزها: صعوبة النوم أو محاولة تجنبه خوفًا من الكوابيس المتكررة والمتعلقة بالحرب وذكرياتها، فقدان السيطرة على المشاعر والغضب الشديد، تجنب الحديث عن أمور متعلقة بأحداث الحرب أو الذهاب إلى أماكن يمكن لها إعادة بعض الذكريات الأليمة، ضعف الثقة بالنفس والتواصل الأسري أو الاجتماعي، إلى جانب اضطراب بعض المعاني الوجودية، مثل الإيمان والحياة والموت والتفكير بالانتحار، وغيرها من العوامل التي تختلف من شخص لآخر، ومن عمرٍ لآخر.
كما توصلت البحوث والدراسات إلى أن الأطفال الذين تعرضوا لمخاطر الحروب وعايشوها، معرضون بشكلٍ خطير للإصابة بالمشكلات العقلية والنفسية التي يمكن أن تمتد آثارها إلى سنين طويلة، قد تمتد طيلة العمر. لذلك فإن الأعراض لدى الأطفال تشمل: التبول الليلي في السرير، بعد أن كان الطفل قد تعلم الذهاب للمرحاض، نسيان كيفية الكلام أو عدم القدرة عليه، الارتباط الشديد مع أحد الوالدين أو غيرهما.
لذلك، فإن العيش في بيئة تشهد حوادث خطرة وصدمات هي من العوامل التي تدعم اضطراب ما بعد الصدمة؛ وتحوّله إلى اكتئاب مزمن متعدد، يحتاج إلى دعم اجتماعي ونفسي.
طوّر علماء النفس في السنين الأخيرة كثيرًا من الأساليب والمدارس المتخصصة، في علاج اضطراب ما بعد الصدمات واضطرابات الحروب بشكلٍ خاص، منها العلاج المعرفي، أو ما يُعرف Cognitive Therapy، أو العلاج المعرفي السلوكي Cognitive Behavioral Therapy.
كلا العلاجين يقوم على تغيير أفكار وسلوكيات المريض السلبية، وتحويلها إلى أفكار أكثر إيجابية متصالحة مع الواقع، من خلال جلسات عديدة متنوعة، تكون بشكلٍ فردي أو مع مجموعة من الأشخاص الذين عانوا وعايشوا تلك التجربة المؤلمة، وغالبًا ما يعمل المعالِج من خلالها على مساعدة المريض، لإدراك تصرفاته وأفكاره الحالية، والعمل على تغييرها بطريقة تساعد في معالجة التجارب النفسية الأليمة بطرقٍ مختلفة.
ولأنشطة الدعم الاجتماعي والأسري آثارٌ بالغة الأهمية، في علاج اضطرابات ما بعد الحروب، وقد توصلت كثير من الدراسات إلى أن نقص الدعم الاجتماعي يؤدي إلى تدهور ومضاعفة آثار اضطراب ما بعد الصدمة، وتردي الحالة النفسية لدى المصابين بها والمتضررين منها.
ويُعنى الدعم الاجتماعي بتوفير الموارد النفسية والمادية التي تساعد الفرد على مواجهة الصدمات والتغلب عليها، ويأخذ هذا الدعم أشكالًا مختلفة وطرقًا عديدة، منها الدعم العاطفي أي تعزيز السلوكيات والتصرفات التي تُشعِر المصاب بأنه مُحتوًى ممن حوله، إضافة إلى تعزيز ثقته بنفسه، بكونه محبوبًا ومُتقبلًا في ظروفه كافة، فصدمات ما بعد الحروب عادة ما تؤثر في ثقة الفرد بنفسه ومجتمعه.
ولو عدنا بالتاريخ للوراء؛ لرأينا أن أساليب علاج ما بعد الصدمات أخذت طريقها في علم النفس، أول مرة، بعد الحرب العالمية الأولى، لعلاج الجنود والمدنيين المتضررين نفسيًا من الحرب وآثارها.
ومنذ ذلك الحين، أخذ العلاج بالتطور يومًا بعد يوم، ليحتوي أشكالًا عديدة وطرقًا شتى، هدفها حماية الفرد من ذكرياته المؤلمة وإعادة تأهيله، ليحاول من جديد أن يعيش ويتعايش مع الواقع. لا سيّما أن أعداد هؤلاء المرضى ونسبتهم تكاد تكون مهولة في العالم العربي، وخصوصًا في الدول التي أصابتها الحروب في السنوات الماضية. فبعد كل ما مر بتلك الشعوب وعايشته، دون أن تتلقى العلاج الكافي وأشكال الدعم الوافية، ألا يخطر في بالنا أن نتساءل: كيف بإمكان كل أولئك الشباب والأطفال أن يصمدوا في هذه الحياة دون التفكير في الانتحار؟! أو ما شكل المجتمع الناتج عن كل هذه الحالات المليئة والمعبأة بكل تلك الآلام المتروكة دون علاج؟!
بني أمّي؛ أستحلفكم بالرحمن، وبكل ما تحملونه من قيم وحب وإنسانية، أن تعيدوا النقاء والجمال إلى سماء أبنائكم، لتغسل أمطارها ظلام الحرب واضطراباتها المؤلمة، وألا تتركوهم أجسادًا بلا أرواح.