فهم الثقافوية:
لا يترتّب عليّ تقديم تعريفٍ للثقافوية، بقدر ما يترّتب تقديم فهمٍ لها، يخرجها من عطالتها كمفهوم متماشٍ مع الثقافة، إلى مفهوم ضد، ولكن معزز لها، من باب المفاضلة وتقديم الشيء بالشيء، وإن كان ضدًا، وإن كان التوجه ينطلق إلى تعريف الثقافوية، من خلال ما تفعله أو تريد فعله أو تراه صحيحًا، فإذا كانت الثقافة تلتقي مع بعضها في مجموع تلاقي الحضارات ووئامها؛ فإنّ الثقافوية أنثروبيولوجيًا تتخذ شكلًا أشبه بما يتخذه “الطوطم“، بكل ما يعني من ريبةٍ تخصّ جماعة دون سواها، للحفاظ على ميزاتها وظروف استمرارها، وقدرتها على الفردانية في إيجاد حلولٍ لمشكلاتها، بالالتفات إلى خصوصيتها، مهملةً تلك الأشبه بـ طوبى، تلك التي بطريق ما تؤدي إلى تكامل الحضارات والثقافات، والغوص في بنيات تأسيسها لمعرفة جذرها، وبالتالي التأكيد على وحدة الأنسنة ووحدة تشكلات التاريخ ووحدة الجنس البشري، أمام ما يتهدده طبيعيًا، ومن ثمّ ما يتهدده من التطور الذي يصنعه نفسه، انطلاقًا من ثقافته وعمله الدؤوب في تحسين شروط حياته، من حيث هو يصنع في جهةٍ أخرى سببًا لفنائه!
الصراع الخلبي على التسميات:
أقرأ في كتاب فرويد (الطوطم والتابو)، وهنا يؤكد الفيلسوف في أحد الفصول “افتراضًا” أنّ النفس الجمعية تطولها الأحداث كما تطول، أو كما هي تمامًا في النفس الفردية، سواء ثقافيًا أو ثقافويًا بالمعنى الطوطمي الذي تلتفت فيه المجموعة إلى ذاتها والأفراد إلى ذواتهم، لتعزيز نزعة وجودهم أمام آخر، قد لا يختلف عنهم -أبدًا- كما في الحال السورية، توجهات دينية في الشكل، طائفية، مذهبية، ملل، نحل، وأخرى سياسية تتماهى بين الديني والعلماني، عسكرية مطالبة بالمدنية، مدنيون يديرهم عسكر، ثنائيات متآلفة وتتصارع “أخوة المنهج”، ثنائيات متضادة تحارب معًا “براغماتية” وهكذا، إلى أنْ يصل المفهوم إلى الانسداد والعقم، فما تتمثله النزعة الفردية، من قدرةٍ على الضبط أو التماهي مع حال الجماعة، لا يمكن للجماعة -بأي حالٍ- أن تصمد فيه أمام أفرداها المثقفين أو الثقافويين، ففي الحالة الأولى يظهر التعدي على روحية الفرد المثقف ونزعته، وكذلك نزقه وانتهازيته في أنْ يكون واحدًا يميّز بذاته، بوحدته، بشخصه لا بوروده، رقمًا مع الجماعة التي قد يسميها: “القطيع”، فيقطع علاقته بها، فيما لم يجدها مصدّقة للذي يأتي به ويراه صائبًا ولا يقبل الدحض. وفي الحالة الثانية الثقافوية، أي في حال المنازعات والمقاربات والمقابلات بين مفهومين، كأن يكونا دينًا وعلمانية، أو يكونا معرفيين أقلّ من حدة ثنائية دين/ علمانية، وإثارتهما لجدلٍ عميق هو في أسّه تغذية للراجع الثقافوي، وفي هذه الحال، يكون النقاش قابلًا وأقلّ حدةً، بل بما أننا نتحدث عن سورية، سنقول أقلّ تخوينًا وادعاءً للصحيح على حساب –دائمًا- من هو السارق والمستلب، وكأن لا بدّ من آخر عدو تتم المفاضلة من خلاله، أو ربّما هذا الآخر/ العدو هو الحجر الصلد الذي لا غنى عنه في شحذ السكاكين!
التصالح بين الجميع:
هل حقًا الأمر أشبه بطوبى؟!
بالعودة إلى فكرة فرويد؛ نجد أن الأمر نفسي أكثر منه ثقافي، ويتطلب تدخلًا من هذا النوع؛ إذ أجد أن دوركهايم ينفي، من زاوية سيكولوجية، أن يكون الأفراد هم السباقون على مجتمعهم، وبذلك هو يجد أن المجتمع يقوم على أفراده، وبهذا قد يكون الدين، كشرط ينشأ فيه، قائدًا ومنه -بحسب فهمي- قد تكون السلطة قائدًا، مستفيدةً من الفتوحات السيكولوجية في تفسير الظاهرة، وربّما هذا جليٌّ في التسميات التي تتخذها الفعاليات “الثقافية” والعسكرية والاجتماعية لتسيير مشاريعها، ولكي أدلل إلى أهمية هذه المشاريع، سأقول إنّها لا تتمثل ولا تمثلّ حواضنها الاجتماعية -تستفيد من طوطميتها- وهي عابرة منفعية، فاتكة، وسرعان ما تتخلى عن برامجها وأسمائها والأمثلة كثيرة على ذلك، وما يحسبه المتابع تكتيكًا وإجراءً مرحليًا هو في الأساس تخبط وارتهان لا أكثر!
نهايات الأدلوجة، نهاية الهويات:
يذكر عبد الله العروي في كتابه ( مفهوم الدولة) بما معناه أنّ الأسئلة النظرية قد تفضي بحال ما إلى تبريرات أدلوجية، لكنه يتفق مع الحداثيين الذين يرون طرح أسئلة عميقةٍ، مهمًا أكثر من النتائج أو الإجابات التي قد تحدّ من عنفوان ومرامي وغائيات الأسئلة المطروحة أساسًا كأفكار مشغول عليها، وبهذا ربّما التحولات السورية في الواقع تحدّ من انفلات الأدلوجة بغياب القانون الغائب آنذاك في سلطة الاستبداد، واليوم غائب في سلطة تنافر الهويات التي بدورها كانت تشكلّ هوية الدولة الثقافية، وليس هوية الدولة بمقوماتها والتعريف القانوني لها.
التعاضد الذي تفترضه الدولة بين المجتمع والفرد لا وجود له، وبالتالي السؤال عن وظيفتها يبدو كقفزة في الهواء أو إجابة عن سؤال غير مطروح أساسًا، وإذا عدتُ إلى العنوان؛ فسأجد مبدأ “الجميع ضدّ الجميع” أقرب للحقيقة، ولعلّه محيط بالعنوان الرئيس الذي ارتأيته هنا “الثقافوية السورية وقتل الهويات”، من حيث كثرة المجاميع وحروبها البينية، مع ما تراه الآخر، وكذلك حروبها داخل طوطمها الخاص بها، وهو طوطم خلبي، لا خواص متمايزة فيه عن الآخر.
الصورة للفنان السوري دلدار فيلمز