تعيد الضربة الجوية المحدودة، التي قامت بها واشنطن بمشاركة من باريس ولندن، ضد مواقع سلطة بشار الأسد، إلى تاريخ الاحتدام في العلاقة بين واشنطن وموسكو، ومنها يمكن ضبط كل مقاربة لما يمكن أن تكون عليه علاقة أقوى بلد في العالم” أميركا” مع ثاني أقوى بلد، خلال العهد السوفيتي، وطموح بوتين لاستعادة القطبية الثنائية بعد انتهاء الحرب الباردة، وتحديدًا على مستوى المواجهة العسكرية.
خلال المواجهات الإعلامية والدبلوماسية، قبل الضربة المحدودة لمواقع الكيمياوي بسورية، ذهب كثيرون إلى التحذير من خطر اندلاع مواجهة روسية-أميركية، وصولًا إلى قول البعض بإمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة (لأن بوتين سيتصدى لأي هجوم غربي)، ومن ذهب إلى ذلك التوقع، بتحليلاته المبنية على التصريحات الروسية، وعلى ما ساقه محللو ومنظرو “الممانعة” من تهويمات على خلفية أمنياتهم، لم يقرأ التاريخ العالمي بموضوعية، ولم يتوقف عند الاختلاف الجذري بين العهد السوفيتي الذي كانت تقوده روسيا، وبين العهد الروسي الرأسمالي المافيوي الذي يقوده بوتين.
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كان العالم قد وصل إلى ما يدعى “حافة الهاوية”، في أزمتين كبيرتين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي ذلك الوقت مالت الآراء إلى احتمال اندلاع حرب نووية، تحديدًا في أزمة الصواريخ الروسية في كوبا، جراء تداعيات الهجوم الأميركي في خليج الخنازير. لكن العملاقين -حينذاك- أبعدا العالم عن حافة الهاوية، واجترحا الحل الذي يمنع التصادم.
قبل ذلك، كان العالم قد عاش أطول وأشد الحروب، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية: الحرب الكورية (1950-1953) التي كان فيها الطرفان: الأميركي والسوفياتي، يتواجهان عسكريًا، كل منهما بأدواته ووسائله، السوفيات بدعم لكيم إيل سونغ زعيم كوريا الشمالية، بالسلاح والمعدات ومستلزمات الصمود، على أمل تحقيق النصر باجتياح القسم الجنوبي من كوريا، أما الأميركيون فتدخلوا مباشرة بأسلحة الجو والبر، فضلًا عن تقديم كل الدعم للنظام الموالي لها في الجنوب. واستمرت الحرب ثلاث سنوات 1950-1953. وانتهت بفشل هجوم نظام كوريا الشمالية الذي قام ببدء الهجوم للسيطرة على الجنوب، بدعم من ستالين والسلطة السوفيتية. وعاد خط العرض 38 خطًا فاصلًا بين الكوريتين، بعد إزهاق أرواح خمسة ملايين كوري.
في تلك الحرب، قامت الصين بدور المواجهة البرية والجوية مع قوات حكومة الجنوب، ومع سلاح الجو الأميركي، وبقي الروس على دورهم الثانوي غير المباشر. وتم ضبط الاحتكاك المباشر مع القوات الأميركية، فلم تشهد الحرب الكورية اشتباكًا واحدًا بين الطرفين. وكانت نتيجة تلك الحرب فشلًا لنظام الشمال الذي كان يقوده كيم إيل سونغ، وسقطت أطماعه المدعومة من السوفيت، وخرجت حكومة الجنوب من تلك الحرب، بدعم من الأمم المتحدة، أقوى مما كانت يوم انطلاق هجوم قوات الشمال لاجتياح أراضيها.
لقد كانت المواجهة الأخطر، في تاريخ العالم بعد الحرب الثانية، عندما نشبت أزمة الصواريخ الروسية التي نصبها الاتحاد السوفيتي على الأراضي الكوبية، إثر هجوم خليج الخنازير في نيسان/ أبريل 1961، الذي دبرته أميركا، لإسقاط نظام كاسترو. ويومئذ خيّم على العالم شبح الحرب النووية بين العملاقين. لكن النتيجة الأخيرة “لحافة الهاوية تلك” كانت سحب الصواريخ السوفيتية من كوبا، مقابل فك الحصار الأميركي عن موانئ كوبا، وتعهدت واشنطن بنزع صواريخها من الأراضي التركية على حدود الاتحاد السوفيتي.
من المفيد الإشارة إلى العامل الأيديولوجي، الذي كان يجمع كيم إيل سونغ وكاسترو من جهة، وروسيا السوفيتية من الجهة الأخرى، حيث الانتماء للفكر الاشتراكي، كان عاملًا مهمًا في الخطاب الدعائي لروسيا، لتعبئة الرأي العام المناهض للرأسمالية – الإمبريالية، كما في إدارة موسكو للأزمتين، وكانت الدولة السوفيتية في ذلك الحين تعيش أفضل حالاتها، بعد الانتصار في الحرب الثانية. وفي كلتا الحالتين، انتهت “حافة الهاويتين” إلى تسوية، حقق فيها كل طرف مكتسبات، وخسر مقابلها امتيازات كان يحوز عليها، وكانت المكتسبات الأميركية أكثر وأهم من تلك التي جنتها موسكو في محصلة الأزمتين.
بعد سقوط النظام السوفيتي، متزامنًا مع الهزيمة العسكرية في أفغانستان التي خاضها وكلاء واشنطن هناك؛ واجه العالم أزمتين كبيرتين تخللتهما حربان، لم تستطع روسيا فيهما مدّ اليد لحليفيها في الاتحاد اليوغوسلافي وفي العراق، واكتفت بالتنديد والتحذير، دون أن تحرك ساكنًا. ومع تداعيات الصراع في سورية، حاولت موسكو الرأسمالية المافيوية هذه المرة، التعويض عن خسائرها في أكثر من مكان، وزجت كل قواها المطلوبة لتوطيد وجودها شرق المتوسط، وذلك على خلفية الوهم باستعادة مجد روسيا السوفيتية، وربط ذلك بشخصية رئيس لا تخفي أدواته الإعلامية طموحه الذاتي ليتماهى ذلك المجد المأمول بشخصه، وليوطد سلطته “مدى الحياة” على ما يبدو، وصار ترداد مصطلح “روسيا البوتينية” عزيزًا على رجالاته ومحابيه في بلدان أخرى.
لقد انكشفت حقائق كثيرة عن ذلك الوهم، خلال تعامل إدارة بوتين مع “حافة الخطر” التي وصلت إليها الأزمة في سورية، من جراء الفظاظة والغلواء الروسية، في الاستخدام المتكرر والمتواصل للفيتو دفاعًا عن جرائم استخدام السلاح الكيمياوي ضد الشعب السوري، وكان آخرها استخدامه في مدينة دوما بدمشق، وقد وصلت تداعياته إلى الضربة الصاروخية الغربية على مواقع هذا السلاح ومستودعاته وقواعده ومختبراته. ويتذكر الجميع كيف كانت الدعاية الروسية، ومنابر حلفائها، قبل الضربة، يضخون الحماس والثقة بأنفسهم ومواليهم، بأن روسيا ستواجه أي هجوم على سورية، لكن العبارة الحقيقية المفيدة التي غض عنها الطرف كل المحابين لموسكو والمستقوين بوجودها على الأرض السورية، حين صرح الناطقون باسم وزارة الدفاع الروسية، بأنهم “سيدافعون عن جنودهم المتواجدين في سورية من أية هجمات تعرضهم للخطر”.
ما أريد قوله أن المتكئين على روسيا وقدرتها على حماية نظامهم “الممانع والمقاوم”، لم يقرؤوا التجربة التاريخية حين وقف العالم أكثر من مرة “على حافة الهاوية”، حتى إبان العهد السوفيتي، الذي كان يتفوق كثيرًا على السلطة البوتينية الرأسمالية المافيوية الدكتاتورية. وغاب عن عقولهم وذاكرتهم أن روسيا صرحت منذ دخولها السافر إلى سورية، بأنها لن تنخرط في حرب مع واشنطن من أجل سورية. ومن حسن حظهم أن الضربة الثلاثية لم تكن موجهة ضد النظام، إنما كانت لمعاقبته على استخدام سلاح محرم دوليًا، وإن تداعت الصراعات واحتدمت، لتصل إلى توجيه ضربة تستهدف سلطة بشار؛ فسيضع بوتين رأسه في الرمال، ويكتفي بما يقدمه للسلطة السورية من دفاعات جوية وأسلحة، وباحتجازه الإرادة الدولية بقوة “الفيتو” على طول الوقت، مع علمه أن ذلك الفيتو، عند الضرورة، لن يمنع عملًا نوعيًا تقرره واشنطن.
أليست التجربة العالمية كافية للدلالة على تلك الحقيقة، من كوريا حيث أوكلت موسكو لبكين مهمة التصدي لأميركا، إلى كوبا والتراجع عن نشر الصواريخ الروسية فيها، وفي عصر ما بعد السوفييت، شهدنا تجربة نظام صدام والتجربة اليوغوسلافية، وانكفأ حينذاك النظام الروسي عن أي دور أو مواجهة.