أدب وفنون

النقاء القاتل

في قصة قصيرة جدًا للكاتب أوجستو مونتيروسو، يقول: (عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال هناك). فالحياة لا تتغير كثيرًا من حيث المعنى، ونحن لا نعيش في القرن الحادي والعشرين إلا بالمظاهر الحياتية والتعبيرية، ونستطيع إسقاط الكثير من المشاهد والمفاهيم الخاصة بالعصور القديمة على حاضرنا، ربما بصورة أخرى وبمسمى آخر. وهذا ما فعله الكثير من الكتاب الذين استلهموا من الماضي ما يفسر الحاضر، ومنهم الكاتب الأميركي آرثر ميللر في مسرحيته الشهيرة البوتقة (The Crucible) أو ساحرات سالم. فقد بنى أحداث المسرحية على وقائع حقيقية، جرت في القرن السابع عشر في بلدة سالم الأميركية، ليسقطها على المكارثية التي عصفت بأميركا، والتي كانت تلاحق المثقفين والفنانين بتهمة التعاطف مع الشيوعية؛ ما سهل التخلص من أي شخص يعترض على السلطة، أو يبدي رأيًا مخالفًا لها، بتهمة جاهزة: إذن أنت شيوعي! وتزامنت هذه المكارثية مع الجدانوفية التي لاحقت المثقفين في الاتحاد السوفيتي السابق؛ إذ رفعت شعار الفن في خدمة المجتمع، والذي فرض على جميع الفنون أن تكون دعاية للنظام الستاليني الذي هيمن على السلطة طوال سبعة عقود.

وهو ما يحدث دومًا في ظل الأنظمة الاستبدادية، بل إن النظم الديمقراطية بحد ذاتها، لم تنج من هذا السلوك المدمر والحاجب للحقائق، فكل من يروم حقًا أو عدلًا، يتحول إلى خائن أو عميل أو متمرد أو كافر… بحسب جغرافية السلطة وصراعاتها من أجل الهيمنة. وهو ما كان يحدث دومًا في ظل الدولة الوطنية في دول المشرق وشمال إفريقيا، مع اختلاف الأيديولوجيات الحزبية والقومية والوطنية والقبلية التي تحكم هذه البلدان، وهو ما تصاعد مع بدء ثورات الربيع العربي والثورات المضادة؛ إذ إن التهمة التي لا تناقش، إنما هي أنشوطة الإعدام التي لا رد لها، يموت بسببها المعارضون والموالون على حد سواء، فلا أحد بمنأى عن التهمة.

مسرحية (البوتقة) تأتي في فصول أربعة، نشرت سنة 1953، وتقع أحداثها في بلدة (سالم) في ولاية ماساتشوستس عام 1692، قدمت بتمثيل شون كونري سنة 1959 في الحلقة العاشرة من مسلسل تلفزيوني (TV Play of the week) كان يعرض أهم المسرحيات، واستمر لمدة عشرين سنة تقريبًا 1955-1974. وتم إنتاجها كفيلم سنة 1996 من بطولة Daniel Day Louis وWinona Ryder وإخراجNicholas Hytner ، الفيلم الذي حصد سنة 1997 جائزتي أوسكار لأفضل ممثلة مساعدة، وأفضل Screen play سيناريو مقتبس من عمل أدبي.

الفيلم مشغول عليه برؤية إخراجية عالية، ويرصد حملة تطهيرية يقوم بها أصوليون أميركيون لتحقيق مصالح خاصة، تحت شعار طرد السحر والشيطان، حيث يتم اتهام بعض النسوة بممارسة طقوس شيطانية وممارسة السحر، عندما ترقص عدة فتيات في الغابة ليلًا، ومنهن ابنة القس وابنة أخته وخادمته الزنجية، وفي ذروة الحماس تتعرى ابنة أخت القس أمام الفتيات، ويتم إلقاء القبض عليهن فيما بعد، مع خيار العفو عنهن في حال الاعتراف بسيطرة الشيطان عليهن، تقوم الفتيات بتمثيل دور التائبات، وإلقاء اللوم على الحلقة الأضعف متمثلة بالخادمة، على أنها أغوتهم وقادتهم للغابة لإقامة الطقوس الشيطانية، ثم تتوسع دائرة الاتهام لتطال أشخاصًا آخرين، لمصالح معينة أو خلافات أو كراهية مسبقة، وتتحول الفتيات إلى جهاز اتهام خطير، لتصفية من يكنون لهم كراهية مسبقة، فأي اسم يذكرنه يجر إلى المحكمة ويحكم عليه بالإعدام، وتقوم ابنة أخت القس باتهام زوجة عشيقها السابق، للتخلص منها، واستعادة عشيقها. وتتداخل مع اتهامات أخرى لأشخاص يرفضون بيع أرضهم للمتنفذين في البلدة، وتدخل المدينة دورة انتقامات فظيعة، تحت شعارات دينية. يقول جون بركتور بطل المسرحية: الانتقام هو ما يحكم (سالم) اليوم، الانتقام يملي على القانون.

تتواكب رغبة المجلس والقضاة مع سعي القاضي الكبير للاستفادة من الفرصة، من أجل التأكيد على سيطرته وقوته ومكانته، أكثر من اهتمامه بكشف الحقيقة، وهو ما يفصح عنه في حوار مع القس بيرس: عليك أن تدرك يا سيد بيرس أنك إما تكون مع المحكمة أو ضدها. فالموضوع هو إثبات السلطة، وهو بعيد كل البعد عن الدين الذي يتحول إلى شعار يخفي تحته كل المشاعر البشرية الدنيا، من طمع وحقد وضغينة وصراع على السلطة، ليموت البريء ويبقى السيئ.

ربيكا نيرس المربية الفاضلة بشهادة الجميع، والتي تمثل صوت العقل في المسرحية، يتم شنقها في آخر المسرحية، لأنها رفضت هذا الهيجان القاتل منذ البداية، وقالت: بدلًا من البحث عن أرواح ضالة، علينا أن نلوم أنفسنا.

جو السعار المحموم يطال كل من لا يخنع، ومنهم بطل المسرحية، جون بروكتور العشيق السابق لابنة أخت القس، وزوج السيدة المتدينة، الذي يضطر من أجل أطفاله أن يكذب ويعترف بما لم يجر من سيطرة الشيطان عليه، لكنه يرفض أن يعلق اعترافه على جدار الكنيسة، ويقول للقضاة: لدي أطفال ثلاثة، كيف سيشقون طريقهم؟ لقد بعت لكم روحي، فاتركوا لي اسمي، لأنه لن يكون لي اسم آخر. فيتم شنقه مع ريبيكا والبقية. أما الحشود التي كانت تضج بهتافات الانتقام من السحرة، وتقديس ابنة أخت القس الفاسقة، تصحو فجأة، وتدرك أن كل فرد منها مهدد بالشنق، إن لم يذعن تمامًا ويقبل المذلة، فيضجون بطلب الغفران، ولكن بعد مصرع الكثير من الأبرياء.

ومن المواقف البالغة الدلالة، اللقاء الأول الذي يجمع بين القس بيرس والقس هيل، يقول بيرس: ما أثقل هذه الكتب! فيرد عليه هيل: نعم، إنها تفيض بالسلطة.

ماري وارن خادمة بروكتور التي تتحول إلى عضو في المحكمة، تقول وهي منتشية: أنا عضو في المحكمة الآن! في إشارة إلى تلذذها بالسلطة. أما السيد كوري الذي يرفض إفشاء اسم الشاهد على عملية تزوير أوراق ملكية الأرض، فيتم تعذيبه بوضع الحجارة على بطنه، ويصر على موقفه الرافض للفساد وهو يصيح: المزيد من الحجارة.. إلى أن يقضي نحبه تحتها وهو العجوز الهرم.

تلك المحاكم التي أدت إلى شنق قرابة عشرين شخصًا، جلهم من النساء الضعيفات ببنيتهن، والقويات بإيمانهن وصدقهن، قضوا نحبهن تحت شعار النقاء الديني والمثاليات والخرافات القاتلة.

يمكن ضم هذه المسرحية العظيمة مع أعمال أخرى تم إخراجها سينمائيًا، مثل رواية العلامة القرمزية (The scarlet Letter) للروائي ناثاينل هاوثورن التي صدرت عام 1850، والتي تجري أحداثها في مدينة بوسطن، الرواية التي أنتجت سينمائيًا سنة 1995 ببطولة ديمي مور وغاري أولدمان، وإخراج رولاند جوف، وكذلك رواية اسم الوردة لأمبرتو إيكو 1980، والتي أنتجت سينمائيا سنة 1986 بطولة شون كونري وإخراج جان جاك أنود، وغيرها من الأعمال التي تفضح الشعارات الكبرى التي يدفع ثمنها الأبرياء، من أجل مصالح نخبة فاسدة.

انتقد آرثر ميللر مسرحيته (البوتقة) قائلًا: إنها مسرحية مليئة بالقسوة، ونقدي لها أنها ليست ملأى بما يكفي. ومن طرائف هذا الفيلم، أن بطله دانييل دي لويس، امتنع عن الاستحمام طيلة تمثيله لدوره، ليكون شعوره بالغضب والبؤس قريبًا مما كان يحدث في ذلك المكان والزمان.

مقالات ذات صلة

إغلاق