قضايا المجتمع

الفتوحات… المصطلح المغدور

تطلق كلمة الفتوحات على الحروب التي شنتها الدول الإسلامية المتعاقبة ضد جيرانها من الأمم، بغية إظهار الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون، وهذا ما تلقيناه في مناهجنا الدراسية، وأي تعريف للفتوح بأقل من هذا القدر الصريح، فهو التفاف على التاريخ ومواجهة مع التراث وتحدّ لحراس التراث وسدنته.

ولكننا اليوم مدعوون للمراجعة في استخدام مصطلحاتنا في العنف، حيث استمر تلقين أجيال بحالها أن غاية الأماني هي ركوب الخيل والهجوم على المشركين وقتالهم والإثخان فيهم، كما صنع أجدادنا الفاتحون، وهو الأمر الذي بلغ بمشاعر الإسلاموفوبيا إلى الغاية، وكرس العداء بين الإسلام وبين العالم.

وحين خرج الناس يهتفون للحرية في ساحات المدن السورية، تم استدعاء النموذج الجهادي من عصر الفتوح، وتحول الهتاف للحرية والخلاص من الظلم والاستبداد، إلى هتاف وعيد وثأر وزمجرة، ينذر بقدوم الحل الثيوقراطي الغاضب من الحريات، والمتربص بالأقليات والمرأة والعقل.

وتبدو مسألة الفتوحات التاريخية مجدًا محسومًا في معظم كتب الفقهاء، وأنه لازمة نشر الإسلام في عصر المجد، وأن هذا الدين جاء بسيف وكتاب، وأنه ينبغي أن يظل هادرًا صاخبًا يقرع طبول الحرب، فأعداء الإسلام في كل اتجاه وفي كل زمان ومكان، وقدر المسلم أن يقاتل الكفر في كل مكان حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وفي السياق إياه، باتت الدعوة إلى السلم والدبلوماسية والحوار مع العالم، تعتبر خذلانًا ووهنًا، وبات هذا الموقف يصنف من قبل فقهائنا المعاصرين بأنه كيد ماسوني خطير يهدف إلى نزع أظفار الإسلام وتحويله إلى رهبانية مذعورة خاضعة لإملاءات الدول الكبرى.

ومن الطبيعي أن تمتلئ الأخبار والبرامج بسير أبطال الحروب والفتوحات، واعتبارهم مجدًا لهذه الأمة، ولولاهم لما كان لهذا الدين الحنيف أن يصل إلى أقطار الأرض، ونتيجة لذلك يعيش المسلم في تناقض مزدوج محيّر، فهو يريد أن يهلل لهذه الفتوح ويعظم أبطالها، ولكنه في الوقت نفسه يغضب حين يقال إن الإسلام انتشر بالسيف!

ما تهدف هذه الدراسة إلى الوصول إليه هو أن عمل الفتح العسكري لم يكن محل قبول ورضا من المجتمع الإسلامي كله، وكان له دومًا معارضون معتبرون، وكان في قادة التاريخ الإسلامي من يصنف هذه الحروب على أنها بغي وتسلط، وأنها لا تفيد في نشر الإسلام، وأن الإسلام كان يملك فرصًا أفضل للانتشار، لو أنه تمّ تغييب العنف.

وربما بلغت هذه الإرادة أوضح تجلياتها حين ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، في أعقاب سلسلة ضارية من الفتوحات مضت بها الجيوش الإسلامية إلى الأندلس شرقًا والقسطنطينية شمالًا والصين والسند شرقًا، وكان برنامج عمر بن عبد العزيز واضحًا في سحب هذه الجيوش، ووقف الاندفاع القتالي الذي صبغ المرحلة، والأمر بفتح الدبلوماسية والحوار مع الشعوب المغلوبة، وحقق بالفعل سحب الجيش من الثغور الشمالية في القسطنطينية والغربية في سمرقند والسند، ولم ينجح في سحب الجيش من الأندلس، بالرغم من إصراره على ذلك.

ومع أن موقف عمر بن عبد العزيز بدا صادمًا ومفاجئًا، فإنه في الوقت نفسه كان نتيجة غضب شعبي من ممارسات الفاتحين، خاصة أن الثلاثة الكبار: طارق بن زياد ومحمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم، تعرضوا للعزل والمحاكمات والعقوبة، قبل تولي عمر بن عبد العزيز، وماتوا في السجون، ونظر إليهم المجتمع الإسلامي آنذاك كعسكر طائش لا بدّ من وقف جموحه وإعادة تأهيله، وباتت المطالب تتزايد لوقف هذا السلوك الحربي، وتمييز قيم الإسلام في الرحمة والحوار عن إرادة الجيوش في القتال والتغلب.

ولا شك أن بسط القول في هذه المسألة يقود إلى جدل متعاقب، ولن يأتي منه طائل كثير، حيث لا يمكن قراءة التاريخ بتفسير واحد، ولكن العودة هنا باتت ضرورية إلى عصر النبوة وموقف الرسول نفسه من الفتح والحرب.

من المدهش أن كلمة (فتح) لم ترد في القرآن الكريم، في سياق الحروب والمعارك، وإنما جاءت في سياق الصلح والموادعة، ومن المعلوم أن سورة كاملة خصصت في القرآن الكريم باسم سورة الفتح، وقد افتتحت بقوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا}، ولكن المفسرين اتفقوا أن الآية لم تنزل في أي معركة، وإنما نزلت في صلح الحديبية، وهو يوم حوار وتفاوض، لم تُرَق فيه قطرة دم واحدة، وقد انتهى باتفاق شهير، أول بنوده وضع الحرب عشر سنين، واعتماد وسائل صارمة لمنع وقوع الحرب من جديد، وكان من شرطه انسحاب المسلمين جميعًا حتى دون أن يقوموا بأداء العمرة، وقد أحرموا لها من ذي الحليفة، قبل الوصول إلى الحديبية بنحو 400 كم!

الفتح المبين في القرآن الكريم هو يوم تعيس لآلهة الحرب، فقد انتهى النزال من دون أي قطرة دم، على الرغم من الاستفزاز المريع الذي مارسته قريش، عبر وكلائها المحاورين: عروة بن مسعود، وحفص بن الأخيف، وعلى الرغم من التحدي الطائش الذي مارسه سهيل بن عمرو، في وضع شروط مهينة في صيغة الاتفاق والتفاوض، كان من أهونها وقف الحرب، ومنع المهاجرين الجدد من دخول المدينة، وإلزام الرسول بالسماح للمرتدين بالعودة إلى مكة، وحين نزلت الآية الكريمة {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا}، كاد عمر يتمزق من شدة الغيظ، وأخذ يتناوس بين الرسول وبين أبي بكر، ويتساءل بحيرة أوَفتحٌ هو؟! أي فتح هذا؟! وحين رد النبي بالإيجاب؛ قال عمر: كيف يكون فتحًا، وقد منعَنا من دخول البيت بعد أن وعدتنا أننا نطوف فيه، ومنع من يريد الهجرة ولا يمنع من يريد الردة؟! كيف يكون فتحًا، ولم نفتح شبرًا واحدًا من أرضنا التي هي حقنا وملكنا، ولم يؤذن لنا بالوصول إليها؟!

ألف سؤال كان في خاطر الفتى الثائر، ولكن النبي الكريم أصرّ على جوابه، وقال: يا عمر، أنا عبد الله ورسوله ولن يضيعني! أما البيت فإنك آتيه يا عمر ومطوف فيه، ولكنكم تستعجلون، وأما من آمن منهم فسيجعل الله له فرجًا، وأما من ارتدّ منا؛ فلا رده الله!

وقد وردت الكلمة في القرآن أيضًا بالبشارة بالفتح القريب أيضًا: {وأثابهم فتحًا قريبًا}، والمفسرون ينوسون هنا بين رأيين: الأول أن الفتح القريب هو عمرة القضاء، والثاني أنه فتح مكة، وكلاهما يوم وفاق ومحبة ومصالحة ووئام، ولم يحصل فيهما التحام حربي ولا قتال ولا نزال ولا صفوف ولا حتوف، وكان تغييرًا شاملًا توج بعبارة شهيرة في التاريخ: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وحين انتهى الفتح المبين؛ خرج الرسول من مكة وعين واليًا عليها: شابًا من بني أمية اسمه عتاب بن أسيد، دون أن يسمح بأي معنى من النزعة الثأر والانتقام والإذلال التي تصاحب الفتوح العسكرية، في حين ذهب قتادة وابن أبي ليلى إلى أن الفتح الموعود هو يوم خيبر الذي حسم فيه موضوع الانفصال اليهودي عن الدولة في الحجاز.

ولكن كلمة الفتح التي جاءت في القرآن وصفًا لأيام السلام والوئام، انتقلت -تلقائيًا- لتصبح وصفًا لأشد أيام الحرب قسوة وعنفًا، حيث تتحدد بصليل السيوف مصاير الشعوب، عبر آلة البطش الغاشمة.

ومن اللافت هنا أن عددًا من فقهاء الإسلام كانوا يستخدمون كلمة الفتح نفسها، في سياق مختلف تمامًا، فكتب ابن عربي: (الفتوحات المكية)، وكتب ابن علان (الفتوحات الربانية)، وكتب النابلسي (الفتح الرباني والفيض الرحماني)، وكتب الساعاتي (الفتح الرباني على مسند الشيباني)، وكتب الشوكاني (فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في التفسير)، وليس في ظاهر هذه الكتب ولا باطنها ما له أدنى صلة بالحروب والمعارك التي احتكرت اسم الفتوح.

لا شك أن الحروب فرضت تحول شعوب بأسرها إلى الإسلام، وتمّ ذلك في عصر كانت فيه الناس على دين ملوكها، ولكن ما يتعين قوله أن هداية الناس بالحجة والبرهان كانت تتم في مكان آخر، بعيدًا من تلاطم السيوف، وبقراءة دقيقة؛ سنجد أن أكثر من نصف العالم الإسلامي اليوم لم يدخله جيش فاتح، وإنما تحول إلى الإسلام نتيجة التحولات الاجتماعية الكبرى، ومن ذلك جُزر الملايو التي  يسكنها نحو ثلاثمئة مليون مسلم، وبنغلاديش وآسيا الوسطى وجنوب الهند التي يزيد سكانها عن نصف مليار، دخلت في الإسلام أيضًا من دون حروب ولا معارك، وليس لدي أدنى شك أنه لو توقف السيف؛ لكانت نتائج الدخول في الإسلام أبرك وأفضل، وهو معنى سبق إلى الوعي به الصحابة الكبار، حين قال ابن مسعود: لقد دخل في الإسلام عام الحديبية مثل ما دخل في أيام الإسلام كله، لقد توقفت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق