يسيل الخوف صافيًا، رائقًا كالماء. يتنزّه خارجًا من مساماتٍ واسعة تنفتح من قاع عتمةٍ موصده، ثم يصير الخوف مئزرًا ترتديه سليمى ونسيم، وهما يطهوان نهاراتٍ غائمة، لا تنقشع شمسها. ذلك الخوف الذي تسرده ديمة ونّوس في روايتها الثانية (الخائفون) الصادرة عن دار الآداب عام 2017، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر هذا العام. حيث ينساب السرد كجدولٍ لا يتعثر ماؤه، يستغرق بعذوبةٍ في رصد التفاصيل غير المألوفة، كأن تكون البطلة سليمى مفتونةً بتضاريس العظام التي تحمل الجسد البشري، أو في ملاحقة أحلامها، حيث يعيد الخوف جسَّ نبضِ العالم المادي، كما في حلم القمر المكتمل وحلم البحر وحلم المطار، وتلك بواباتٌ يدخلها الخوف غيرَ متخفٍّ مثلما يغادرها، حتى إنّ بمقدوره إجراء مقايضةٍ آمنة، كأن تستعير البطلة خوف نسيم من البحر، وتستعير منه عدم خوفهِ من الطيران والطائرات وهي التي تخافها.
تتعرّف البطلة على نسيم في عيادة كميل النفسيّة، ثم تقرأ روايته غير مكتملة، حيث نتعرّف على حياة فتاةٍ مع أمها الحريصة على اقتناء الوصفات النباتيّة الخاصة بتقوية المناعة، ووالدها المريض، المقبل على موتٍ وشيك. وذكرياتها عن سفرها معه إلى بلدتها الساحليّة، فلا رجال في حياتها سوى والدها، وغيره من ذويها كانوا إما مرضى أو راحلين. تتحدث بطلة “أوراق نسيم” عن جدتها خديجة، وتستغرب سؤال كميل عن علاقتها بها، تتذكر جدها البخيل وعطلة الصيف في الضيعة الساحلية. لكن الخوف المغلّف جيدًا يتسرب من حكاية نسيم، ومن مصاير شخوصها. فبطلته تنتقل إلى بيروت، لتعيش في غرفة أشبه بغرف الفنادق الرحراحة، تظل حقيبتها مفتوحة وكأنها ستغادر في أي لحظة.
تكاد الحبكة تشبه التداعي الحر للأفكار، بنسقٍ متماسك في تعاقب السرد وانتقال مفاتيحه، بين سلمى البطلة في رواية نسيم، وسليمى بطلة الرواية. نقرأ على لسان سليمى في الصفحة 55: “أمي الجالسة الآن على الكنبة تقرأ في الصفحة 24 ذاتها منذ أيام، لم أستوعب كيف كبرت أمي، نمنا وكانت شابة، استفقنا وإذا بها كبرت، أتكون كبرت في الليل، أتكفي ليلة واحدة، أتكفي حفنة أحلام ليلة واحدة ليكبر المرء إلى هذا الحدّ؟”. تتحدث سليمى عن اعتقال شقيقها فؤاد، تخاف من أن تغمض عينيها فتظهر لها صورته، فتتعذّب. قصّتها تشبه قصّة بطلة رواية نسيم، وكأنه سرقها، لكن نسيم لم يكتب قصة والد سليمى الطبيب الحمويّ الذي ترك مدينته مذبوحة، ليقطن في دمشق، ويعلّق صورةً للرئيس في عيادته.
في “أوراق نسيم” لا تحتمل البطلة التي لا اسم لها التبدّلات التي شابت عادتها في القراءة والكتابة أثناء إقامتها في بيروت، لكنها تواظب على زيارة دمشق القريبة مرّة كل أسبوعين، والمرور بعيادة كميل، الذي حرّرها من العودة إليه. وكان الاختلاف في الآراء بين السوريين يزداد وتيرةً ليصير شقاقًا وإلغاءً للآخر مع مرور الزمن، وهذا الذي عاينته بطلة “أوراق نسيم” عن كثب في رصد تبّدلات أقاربها. ابن عمّها المهندس، وابنة عمّتها خريّجة الأدب الانكليزي، والخوف يتسرّب بين الحاكيتين، يتحرك بالاتجاهين معًا، وكأن الوقت قد تعطّل به. تقول سلمى في الصفحة 75: “أخاف، فأفكر بالخوف. وإذا فكرت بالخوف، أخاف، وربما يكون الخوف هو الشعور الوحيد الذي يصعب توطين الروح عليه. يصعب التعايش معه أو التصالح. يعشّش في الداخل، ولا علاقة لشيء خارج حدود الجسد والروح به”.
تدريجيًا، تنحسر الحدود الفاصلة بين رواية نسيم، ورواية سليمى. مثل هذا الانقشاع نلمحه في الصفحة 87: “ثمّة بيت بيننا! بيت أملك مفتاحه. تركه نسيم بدل أن يبيعه أو يؤجرّه، وهو لي الآن في انتظار عودته، لم أكن أعرف أنّ البيت لا يعني شيئًا، وأن نسيم نسي ربما أنّ هناك بيتًا ينتظره في منطقة الطلياني. الحيّ نفسه الذي تسكن فيه صفيّة، صديقة والد بطلته، التي طردتها بتهذيب من البيت لتتفرغ لحبيبها”.
تتصفّح سليمى حياة حبيبها نسيم، الطبيب الذي يكتب باسمٍ مستعار خوفًا من الخوف. ثم تشرح علاقته بالمكان، وتدّل على مواطنِ الذعر في روحه، وتكشف وجهةَ نظره بالانتماء، في الصفحة 109 نقرأ: “عثرت على فواتير عديدة احتفظ بها من المطاعم والمقاهي ومحلات الملابس والسوبر ماركت. حتى إنني عثرت على فواتير مكتوبة بخط اليد، حصل عليها من بسطات الخضار والفاكهة على ما أعتقد، عثرت على صندوق صغير محشو بإتيكيتات الملابس التي يشتريها، ينزع عنها الإتيكيت الذي يشير إلى نوع الماركة وثمن قطعة الملابس، ويحتفظ بها. عثرت على فلّينات زجاجات النبيذ، على الكثير الكثير من علب الأدوية الفارغة، يحتفظ بها لأسباب أجهلها”. يعتقد نسيم أن المعرفة موت، وسليمى تعتقد أنها ماتت عندما عرفها نسيم جيدًا.
بطلة رواية نسيم لا تطيق المفاتيح، لا تحملها. ومنذ باعت بيتها في دمشق، لم يعد لديها بيتٌ تعود إليه، لكنها سافرت وعادت، ثم سافرت إلى بيروت، وهنا يتأرجح السرد بين حيوات البطلتين، لكن سليمى تستغرب تجنّب نسيم الكتابة عن الثورة، تكتب له رسائل بعدما قصد ألمانيا مع والده المجنون والعاجز، ولا ترسلها.
في حين أنّ بطلة رواية نسيم تحلّل جوانب من الدلالات الحسيّة الاجتماعية للعلويين، تتحدث عن بنية اللهجة العلوية، وتربط تداولها بمفهوم السلطة، ثم تفتّش بسلطة رجال الدين العلويين، لتكمل رسم الصورة. لاحقًا تتداخل شخصيات الروايتين، ترقص على أطراف السرد العميق لحاكية خوفٍ واحدة، حيث تفهم سليمى أن نسيم هو أحد شخصيات روايته، هو الطبيب في مستشفى الشامي الذي اكتشف موت والد بطلة روايته، نقرأ في الصفحة 131: “يقول لي نسيم الذي يخاف من الماء، إن الموت برأيه يشبه إلى حدًّ بعيد لحظة الغوص في البحر، عندما تختفي كل الأصوات الخارجيّة، ويبقى صوتٌ داخليّ عميق. إنه الصمت. صمتٌ عميق لن يعكّره شيء، لم يقل لي نسيم أنّ للراحل بنتًا كانت في الرابعة عشرة، وما زالت!”، وتبدأ سليمى بمعاينة الذاكرة التي تسوس حياتها، هل هي ذاكرتها بالفعل؟ أم ذاكرة بطلة رواية نسيم مجهولة الاسم؟ نلمح هذا في الصفحة 150، وسليمى تحدّث نفسها: “أيعقل أنني أضعت نفسي في حكاية تلك الصبيّة مجهولة الاسم؟ لم أعد أميّز بين ما أعرفه، وبين ما تعرفه هي؟ اختلطت حكاياتنا، وكما أراني أحمل ذاكرتها بين راحتيّ، حمّلتها ذاكرتي، وظننتها هي من تعرف قصّة أخ ليلى! هل فقدت ذاكرتي وارتديت ذاكرتها؟ هل جننت فعلًا؟”.
تكتشف سليمى أن تلك الصبيّة اسمها سلمى، فيصير وجودها مسألة عائمة، غير مؤكدة في لجّة الهلع، والخوف المتدحرجين على طول خطّ السرد. تستعين بكميل، فيردّ: “الميّت لا يموت”، فيعلق وعي سليمى تحت ظلالٍ سميكة لأسئلة قدريّة مترامية الأطراف، ثم يرتقي فوق الواقع حين سرده تلك التضاريس الوعرة التي أنشأتها لغة الوصف النفسي، كما في الصفحة 157: “كنت جالسة في حضنه على الكنبة الصغيرة في صالون بيته. خفقة ضوءٍ ناعمة تمدّ طرف لسانها إلى قدمي المتدليتين على الأرض. دفنت رأسي في صدره الباذخ، وشممت تلك الرائحة المبلّلة بالمطر تضوع منه، قلت له إنها تمطر في الصالون، وعلينا أن نسقفه قبل أن يشتد الشتاء”.
تقصد سليمى بيروت لتلتقي بسلمى، وفي غرفتها داخل فندق متواضع، يقع منتصف شارع الحمرا تتصل برقم سلمى كما كتبته لها ليلى سكرتيرة كميل. تحكي لها كما لو أنها تحكي لنفسها فقط عن مشقّة درب الحياة الذي سلكته، تتساءل أكانت موجودة أم أنها اخترعت وجودها ذاك، مثلما اخترعت وجود نسيم ووجود سلمى أيضًا، ثم تتفقان على اللقاء في مقهى بمنطقة الأشرفية، وحين تصل سليمى، لا تدخل المقهى بل تراقب قلق سلمى وتتمعّن به، وكأنه انعكاسٌ لقلقها هي، فتؤوب عائدة أدراجها إلى الفندق، تحزم أغراضها وتعود إلى دمشق، حيث بإمكانها أن تجد حضن والدتها يتسع لها بالكامل.
تنسج ديمة ونّوس حبكة روايتها بلون الخوف الفاقع، سردٌ داخل سرد، روايةٌ داخل رواية. لكن الخوف هو البوصلة الوحيدة التي تقود السرد، في بلادٍ لم تعلّم سكانها سواه، ولم يتقن من سكنها سواه، وهذا الذي تفضحه لغة التحليل النفسي لشخصياتٍ تتنفس الخوف كلّما تنفّست، وتخاف من الخوف كلّما خافت أيضًا.