جريًا على العادة البوتينية المُهينة في التعاطي مع الأسد، استُدعي رأس النظام السوري على عجلٍ إلى سوتشي لإبلاغه بمضمون ما بدا أنه رسالة مهمة. ولم تكُن التصريحات التي نُقلَت عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش ذلك اللقاء، حول وجوب انسحاب القوات الأجنبية من سورية، سوى انتقالٍ بالخِلاف الروسي – الإيراني من مستوى التكهنات إلى المستوى العلني. يُجمِع المعنيون بالشأن السوري على أن المقصود من هذه التصريحات هي القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها، وهي إشارة واضحة تدلُّ على تبَلور موقفٍ دولي أكثر انسجامًا يتوخّى تسويةً تشترط إقصاء اللاعب الإيراني عن حَلبة الصراع السوري. وتأتي تصريحات بوتين هذه عقب تطورات لافتة دشَّنها إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع طهران من طرفٍ واحد، وفرض عقوبات اقتصادية وَصَفتها واشنطن بأنها عقوبات “على أعلى مستوى”، فضلًا عما واكبها من تصعيد عسكري إسرائيلي ضد الأهداف الإيرانية في سورية، تتزايد وتيرته يومًا بعد يوم.
استبق ترامب إعلانَه هذا بجولةٍ من الضربات العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة إلى جانب كل من فرنسا وبريطانيا على مواقع عسكرية في سورية، يُرجَّح أن تكون على صلةٍ بأنشطة طهران العسكرية هناك، كما تلَت هذه الضربات غارات إسرائيلية استهدفت هي الأخرى مراكز للقوات الإيرانية والميليشيات التي تدعمها طهران في سورية، في ما يشبه تنسيقًا واضحًا يرمي إلى زلزلة الأرض السورية تحت أقدام الإيرانيين، وإيذانًا ببدء حقبة جون بولتون في الإدارة الترامبية.
بعد سبع سنواتٍ من الصراع السوري، يبدو أن ملامح التسوية المطروحة للتداول بين الأفرقاء الدوليين باتت أكثر وضوحًا مما سبق، وأنَّ قاسمًا مشتركًا يؤلّفُ بين الأجندات المتصارعة بات ممكن التحقق؛ إذا سارت الأمور على نحوٍ إيجابي خلال الأشهر القليلة المقبلة. ويبدو أن كلمة السر المُعلَنة في أي توافقٍ محتمل هي إيران، إذ تشيرُ الوقائع الجارية إلى رغبة مشتركة، لدى طيفٍ من الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، في أن تكون طهران خارج الحسابات في الحل النهائي في سورية.
ما يعزّز من هذه الفرضية، أولًا، الموقفُ الروسي الذي من المرجّح أن يكون قد تبلوَر في ضوء مفاهمةٍ أميركية – روسية تجلّت من خلال ما وُصِفَت بأنها ضربة أميركية مُنسَّقة، كان الروس على علمٍ مسبق بأهدافها التي بدت إيرانية الطابع أكثر من كونها تتعلق بالبنية العسكرية للنظام السوري. كذلك التزمت روسيا موقفًا محايدًا إزاء الضربات الإسرائيلية الأخيرة في سورية، والتي ركّزت على أهداف إيرانية هي الأخرى، لا بل إن هناك من يرى الموقف الروسي على أنّه أقرب ما يكون إلى الموقف الإسرائيلي، لا سيّما أنَّ الضربات الإسرائيلية جاءت عشية استقبال فلاديمير بوتين لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في موسكو.
هل استغنت موسكو عن طهران؟
ربّما يُفهَم الموقف الروسي على أنّه بمثابة تخلٍّ علني لموسكو عمَّن يُفترَض أنه طرفٌ حليف في الحرب السورية، هذا في الظاهر على الأقل، غير أنَّ نظرةً أكثر تفحُّصًا لسياق العلاقة بين الطرفين خلال السنوات الفائتة قد تدفعُ إلى القول بأنَّ الشراكة بين موسكو وطهران بدت جِدُّ آنية وتكتيكية، وجاءت في سياق ندرة خيارات الطرفين أمام موقف النظام السوري الذي بدا على وشك الانهيار في ذلك الحين؛ ما اقتضى تأجيل بنود الأجندات المتضاربة لصالح إنقاذ النظام الذي لا يتحقق دور أي من الطرفين دون وجوده.
إلا أن الدور الروسي بدأ يأخذ منحًى مفارقًا للدور الإيراني، بالتزامن مع تثبيت موسكو لمرتكزات نفوذها في سورية، إذ أخذت التناقضات الاستراتيجية تزداد بين الطرفين بمرور الوقت، وفضلًا عن تضارب السياسات، طفت خلافات اقتصادية بارزة تجلّت من خلال تعطيل موسكو إنفاذ اتفاقات اقتصادية بمليارات الدولارات، كانت طهران قد أبرمتها مع النظام السوري منذ سنوات، منها مصفاة لتكرير النفط وشبكة مشغِّل خليوي من بين مشاريع أخرى. وقد برّرت موسكو خطوتها تلك بأنها تأتي في إطار رغبتها في تأجيل الملف الاقتصادي إلى حين الاتفاق على خطة إعادة الإعمار الشاملة في سياق الحل السياسي النهائي، وبالمفاهمة من الطرف الأوروبي الذي يشاعُ أنه فوَّض موسكو في تسويةٍ سياسية بشرط إبعاد إيران عنها وعن خطة إعادة الإعمار التي يُبدي الأوروبيون حماسةً للانخراط فيها بمشاركة روسية.
من الواضح أنّ الدور الإيراني باتَ يشكِّل عبئًا لم تعد موسكو ترغب في حِمله انطلاقًا من إدراكها لواقع الإجماع الإقليمي والدولي على رفض الوجود الإيراني في سورية، وأنَّ انخراط المجتمع الدولي في أي تسويةٍ مرتقبة سيشترط بالضرورة خروج طهران من المعادلة. كما أنَّ موسكو باتت في وضع أفضل اليوم، لجهة قدرتها على المناورة في سورية بمعزلٍ عن الدعم البشري الذي قدّمته طهران على امتداد فترة الحرب السورية. فموسكو اليوم تراهن على تحوّلين بارِزَين: أولهما اتفاقات المصالحة التي تشرِفُ عليها بنفسها، وثانيها التنسيق مع أنقرة الذي أصبح اليوم أشبه بتحالفٍ مُعلَن تحدوه المصالح المشتركة للطرفين.
لا شكّ في أن موسكو تستعجل الحلّ في سورية نظرًا إلى ارتفاع فاتورة تدخلها العسكري، إذ إنَّ عامل الوقت لا يسير في صالحها، وعلى العكس من الأميركيين الذين لن يعجزوا عن إيجاد من يسدد الفاتورة المتواضعة لوجود قواتهم في سورية، فإنَّ الكرملين بات يشعر أكثر بضرورة إنهاء ورطته السورية بأقل خسائر ممكنة. لذا ترى موسكو وجوب استثمار المأزق الإيراني الراهن لإرضاء الأطراف الغربية وإقناعها بالقبول في بقاء الأسد مقابل استبعاد الإيرانيين من المشهد. لعلّ تلك هي الرسالة التي أبلغها فلاديمير بوتين لرأس النظام السوري، على إثر استدعاء الأخير إلى سوتشي على جناح السرعة، بقاء النظام وتعويمه مقابل الإجهاز على الدور الإيراني في سورية.
على أنَّ موقفًا روسيًا حازمًا إزاء طهران لن يأتي بين عشيةٍ وضُحاها، ليس فقط تحسُّبًا لردة فعلٍ إيرانيةٍ معطِّلةٍ يصعب على موسكو احتواؤها، وهي التي باتت على دراية بالتكتيكات الإيرانية التي حاولت في غير مناسبة عرقلة الأجندة الروسية في سورية، بل لأنَّ موسكو قد تفضِّل تحوّلًا تدريجيًا يترتب عنه تعميق مأزق إيران الإقليمي والدولي من دمشق إلى صنعاء، ودفعها تحت وطأة العقوبات الاقتصادية والضربات الإسرائيلية إلى الخروج من سورية.
ما هي خيارات طهران؟
إذًا، تتقاطع الإشارات التي ترجّح فرصة تحقق هذا التوافق المفترض، ولا شك في أنَّ مشهدًا كهذا قد يشكّل بيئةً مواتية أكثر لوضع قطار الحرب السوري على سكّة الحل النهائي، وإيجاد مخرجٍ يرضي جميع الأطراف باستثناء طهران. غير أنَّ تفاؤلنا هذا -وإن كان ثمَّة ما يبرره- لا يخلو من انحرافٍ رغبَوي، فمن غير المتوقع أن تُسلِّمَ طهران بهذا السيناريو بالسلاسة التي نتوقعها، وهي التي تغلغلت في مفاصل الكيان السوري بشقيه الرسمي والشعبي، واستثمرت مليارات الدولارات في تكريس نفوذها في سورية. كما أن الرهان على أنَّ العقوبات الاقتصادية وحدها ستدفع طهران إلى القبول بتنازلات سياسية مريرة، قد لا يكون على درجة وافية من الوجاهة، لقد حاصرت الولايات المتحدة الأميركية نظام كاسترو في كوبا، ما يقرب من نصف قرن، دون أن تُفلِح في إخضاعه. كما أنَّ الصين، خصمُ الولايات المتحدة اللدود، ستُبدي استعدادها لشراء المزيد من النفط الإيراني وكسر طوق العقوبات الأميركية، كما أن هناك من يقول إن الدول الأوروبية تدرس إحياء تشريعاتٍ تبيح لشركاتها تجاهل العقوبات الأميركية على غرار ما فعلته في التسعينيات إزاء العقوبات المفروضة على كل من ليبيا والعراق.
تُدرِكُ حكومة الملالي أنّها في وضعٍ لا تُحسَد عليه، بَيد أنها لم تُفاجأ بهذه التطورات، ومن المرجح أن ما يحصل اليوم قد نوقِش في طهران مع وصول أول جندي روسي إلى سورية، إذ عليك في السياسة أن تحذر “حليفك” بالقدر نفسه الذي تخشى فيه عدوك. سبق للإيرانيين التعبير عن امتعاضهم من تحركات نظام الأسد، ووصفه بـ “ناكر المعروف” عبر إحدى الصحف المقربة من الرئيس الإيراني. وفي السياق نفسه تأتي التصريحات الأخيرة للمتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي التي ردَّ فيها على “الدعوات المطالبة بانسحاب إيران من سورية”، لتؤكّد ازدياد حدة الخلاف الروسي – الإيراني، إلاَّ أنها تؤكد أيضًا أنَّ طهران لن تسلِّم بسهولة لإدراكها أنَّ إقرارها بالهزيمة في سورية سيُعجِّلُ تقويضَ أركان نظامها الثيوقراطي. في الوقت الراهن، يبدو أن الإيرانيين يضبطون أنفسهم بانتظار ما قد تُسفِر عنه المناورة الأوروبية إزاء انسحاب ترامب من الاتفاق النووي. أمامنا ستة أشهرٍ حافلة، لن يطول بنا الوقت حتى نتبيّن. ربما تكون حظوظ طهران للمشاركة في الحل السوري قد باتت أقل بكثير مما توخّته من استثمارها المُكلِف، لكنَّ فرصها لتعطيل هذا الحلّ على المدى المتوسط، وربما البعيد، قد تكون وافرةً بقدرٍ يدفع إلى القلق.