أيها النهر لا تسـر وانتظرني لأتبعـك
إني أخبرت والدي أنني ذاهب معك
فانتظرني لأتبعك
نشيد ما زال في ذاكرتي، كنت شغوفًا به حد الدهشة، أنشده فيأخذني إلى عوالم من الخوف. يفجعني ذلك الصبي الذي حمل زورقه الورقي، ومضى إلى النهر يناجيه، وقد قرر أن يبحر نحو المجهول مرددًا:
أنا أحضرت مركبي هو يا نهــــــر مـــن ورق
ادنُ يا نـــــهرُ إنني لست أخشى من الغرق
فانتظرني لأتبعك
وكنت أخاف، ويأخذني الحزن أي مأخذ، وأشفق أن يركب ذلك الصبي المغامر رأسه، ويمضي في مغامرته، وتأخذني اللهفة؛ إلى أين سيذهب هذا المشاكس؟ وما عسى أن يكون مصيره لو استجاب النهر لندائه، دون أن أعي أن زورقه من الورق، لا يصلح للإبحار. فها هو النهر ينصت إليه:
ظهر النـــهر هادئًا ورأى الطفل أوله
فرمى المركب الذي في يديه وقال له
انتظرني لأتبعك
وكنت أشهق رعبًا، ولا أمسك أنفاسي إلا حينما أقرأ:
فجرى النهر مسرعًا ومضى ثم لم يعد
صرخ الطــــفل قائلًا ليتني ليتني معك
عند ذلك كان يهدأ روعي، وتستقر أنفاسي، وأحمد الله أن النهر قد مضى، دون أن يصغي إلى نداء ذلك الصبي الشقي.
ومع أن النشيد يدعو إلى حب المغامرة، واكتشاف المجهول؛ إلا أنني كنت أرتعد من هذا المجهول، وربما حملت ذلك في القلب، بعد أن أدركني الشيب، فما زلت أتذكر هذا النشيد، كلما شددت الرحال في طلب الرزق، إلى بلاد الله الواسعة.
هذا النشيد وغيره من الأناشيد التي كنا نحفظها في طفولتنا، ما تزال مغروسة في الذاكرة لم يمحها الزمن؛ وربما لا يجد الجيل الجديد المتعة نفسها التي نجدها نحن الذين أطللنا بقاماتنا المحنية على خريف العمر! ذلك أن تذكر هذه الأناشيد يبعث فينا طفولتنا من جديد، دون أن تمحوها المعلقات السبع، ولا بكائيات الخنساء، واعتذاريات النابغة، وروميات أبي فراس، وحجازيات الشريف الرضي، وخمريات أبي نواس. ولا بدائع ذلك الذي ملأ الدنيا وشاغل الناس.. لقد مررنا على كل ذلك الشعر، بيد أن عذوبة نشيد:
صباح الخيـر يا أختي رايتـك زينــة البيـــتِ
عليك القطر ينــــــهلّ ويغسل وجهك الطل
فيسقيكِ ويجلوكِ
لا تدانيها عذوبة. وإن سحر نشيد:
أيها الســائل عني لا تســــل إلا خبيرا
سل بيَ المستقبل الغامض ينبئكَ كثيرا
لا يوازيه سحر.
فمن منا يذكر أن عمر فروخ هو من أبدع نشيد (أيها النهر)؟ وأن المصري محمد الهراوي هو من أبدع الكثير من الأناشيد الجميلة التي كنا نحفظها دون أن نحفظ مؤلفها مثل:
نم في سريرك يا مــــــلك أنت الفتى ما أجملك
ما في الثرى أو في الفلك لك مشبه حتى القمر
أو
الطائر الصغيرُ مسكنهُ في العشِّ
وأمه تطيـــــرُ تأتي لـــه بالقــشِّ
تخاله الطيـورُ إذا بــدا في الفرشِ
كأنــه أميـــــرٌ يجلس فوق العرشِ
أو
ساعة نومي ها هيه تـــدق لي ثمانيـــة
فيــا أبي وأمّيَـــــــــه أمسيتما في عافية
ومن يتذكر أن حافظ إبراهيم هو صاحب:
للوالدين كرامــــــة ومحبة مني وفية
كم أسديا من نعمة أو أهديا خيرًا إليّه
وأن السوري جميل سلطان هو من أبدع:
ألم تنظر إلى شعري على مهل أسـرحهُ
وثوبي دائمًـا بالمــاءِ أغسلهُ وأمســــحهُ
وكذلك:
رقصًا رقصًا قطع الثلجِ هيا غطي وجه المرجِ
وأن عبد الكريم الحيدري هو الذي ناشد الطفل على لسان إحدى العصافير، كيلا يعبث بعشه:
أمانًا أيها الطفــــــل ودع ما يفعل النذل
أخي لا تمش كالوحشِ تمد الكـف للبطشِ
فعَيشي بعد لا يحلو فرفقًا أيهـــــا الطفل
تصور حزن أهليــــك إذا أخفــــاك مخفيك
فإن الأم تبكيــــــــك وعنك الدهر لا تسلو
فعطفًا أيها الطفل
فيا ليت الذين يرجمون الأطفال بقنابلهم الحارقة، وراجمات صواريخهم وبراميلهم المتفجرة، يتذكرون هذه الأناشيد، لعلهم يعودون إلى طفولتهم، فيرحمون، أو لعلهم يتذكرون أطفالهم فيرعوون.