أدب وفنون

السوداوية السورية في النص الأدبي

تتقمص السوداوية جسدَ أغلب النصوص الأدبية التي نشرها سوريون خارج مسالك الرقابة والقيود، تطل حينًا كعلامةٍ فارقة في بناء سردياتٍ انشغلت بلملمة شظايا الوجع، ووصفه كترفٍ معرفي يمكن إسناد الواقع إليه، وحينًا آخر كان بمقدورها أن تختصر أوكسجين اللهفة داخل الحبكة إلى بضع ذراتٍ فقط؛ لأن الكتابة عن مقامات الدمار من خارج شركه هي شأنٌ يتجاوز استنتاج العموميات، إلى طرح الكلي كما لو أنهُ أسئلة شاقة تنتظر الشفاء، وكأن حال سورية، وهي تُقيم داخل سرداب العدم، أهونُ عليها من المكوث في عتمة فج عميق من وحدانية الفكر، والسلطة.

وأمامَ انهزام الواقع وتقهقره إلى مجرد ديماغوجيا دولية بائسة، صارَ النكوصُ أولوية في قراءته، وكتابته، أو حتى في استغيابه، واستنتاجه، وربما في وصفه أيضًا. فسورية قضيةٌ رابحة يمكن التجارة بها، من دون أن يحسمَ أحدٌ بعد زلةَ الانتصار لصالحه. ومن دون أن يستنتجَ النص الأدبي كيف صارت سورية مستباحةً للجميع؟! وكيف اختفى بريق الشعارات إلى غير رجعة، بعدما طمسته سياسةُ المحاور وهي تستهتر بلحم البلد، ولحم سكانه. دماءٌ تجف في الغوطة بلا اكتراث، ومدنٌ يتقلب على إمساكها كل الفرقاء. اعتقالٌ، وموتٌ باذخ. رحيلٌ، وهجرة، قتلٌ، واغتصاب. ألمٌ كثير، وفرحٌ قليل. ثم يأتي الأدب ليكتب، ليكون قريبًا من لجة التهتك والموت حين يحيطُ بجسدنا العاري، قبل أن يشيعه إلى فراسة العدم، حيث تختلط المقادير؛ إذ ليس جليًا بعدُ أكانت سردياتُ السوريين عن فجاجة الموت والقهر الذي لحق ببلادهم نصوصًا سوداوية الطالع، أم مجرد سردياتٍ حزينة لمأساةٍ فاقت بمخزونها الحسي مآسي العصر مجتمعة، وهنا يكون بمقدور سيغموند فرويد، أن يفرق في كتابه (أفكار لأزمنة الحرب والموت)، المنشور عام 1915 بين السوداوية والحزن: “في السوداوية لا تكون العلاقة بالموضوع علاقة بسيطة، إنما يعقدها الصراع الوجداني، وهذا الأخير إمّا أن يكون تركيبيًا، أي يكون عنصرًا في كل علاقة حب يشكلها هذا الأنا المعين، وإما أن ينطلقَ بالتحديد من تلك الخبرات التي تنطوي على تهديد بفقد الموضوع، لذلك فإن الأسباب المثيرة للسوداوية تكون ذات نطاق أوسع من الأسباب المثيرة للحزن، التي تنشأ في الجانب الأكبر منها عن طريق فقدٍ حقيقي للموضوع، عن طريق موته”، ويقول أيضًا: “الحرب تحررنا من الوهم”.

ليس سهلًا تسليطُ مجسات علم النفس على جسد النصوص الأدبية، خاصةً تلك التي انشغلت بالهم السوري، بعد انتفاضة الناس على السلطة القائمة في العام 2011، كما ليس بالهين التيقن أخرجَت تلك السرديات بمزاجٍ سوداوي، أم بمزاجٍ حزين فقط؟ وهنا لا يسعنا سوى أن نراجع شحوبَ الحياة، وخشونة ملمسها في رواياتٍ شهدت على ولادة الثورة، ومن ثم على قمعها بأدواتٍ مختلفة، أو تلك الروايات التي سلكت دروبًا وَعرَة، كثيرة التعرجات فيها صليلُ فقدانٍ، وموت متقن. وأغلبها نصوصٌ انشغلت بتفكيك بنية الاستبداد، وإعادته إلى عناصره الأولية، من قمع الحريات، والاعتقال السياسي، وفساد الطبقة الحاكمة، واستباحة حياة الناس، حتى بات هينًا مقابلة مكونات الاستبداد على قارعة أغلب دروب السرد عند الروائيين السوريين.

ولعل الموت هو أقوى مكونات الفضاء الروائي لسرديات ما بعد الثورة، يظهر وكأنه استفاضة جديدة للواقع، فلا تقدرُ نصوص السوريين على الهروب منه. تتلقفهُ قريبًا من أبطالها، أو كقدرٍ محتمٍ لهم، ترصد هطوله فوق الشخصيات العابرة، وتلتقيه فوق أثير الحطام، في غبار الأماكن البائدة، وفي أقبية التعذيب، داخلَ بذور الرطوبة وعفن المعتقلات. ترصدهُ موجهًا في رصاصةٍ تستلقي على سرير الحياة الضيق، أو في قذيفةٍ تغذي حلم عابر سبيلٍ طارئ.

كما تحضر سيرة الاعتقال وعذاب المعتقلين في خطوط أغلب السرديات، تلازمها وكأنها ضميرٌ روائي لا يمكن إغفاله، فحياةُ أبطال معظم الروايات التي فاضت بعد العام 2011 هي حياةٌ غير مستترة، تطرح الواقع كسؤالٍ إشكالي، وتطرح نفسها كأسئلةٍ إشكالية على الواقع العقيم كدرسٍ في الإنشاء أو النحو. تتنفس كربون الاعتقال، من رئة المعتقل الضيقة، ثم تتلون أجسادها بأصبغة الجلاد القاتمة. تذوقُ مقتنيات الجوع اليومية، وتلبس أردية المهانة بألوانها المعروفة. نجدها تضيء تلك العتمة التي يجب على السوريين إبصارها، وإن لم يصادفوها؛ فتظهر أسماء الفروع الأمنية، وأسماء المعتقلات، وتفاصيلُ اليوميات البائسة. وهذه خطوط السرد الأساسية في رواياتٍ مثل (الموت عمل شاق)، و(السوريون الأعداء)، و(أيام في باب عمرو)، و(نزوح مريم)، و(حراس الهواء)، و(مدن اليمام).

تلتصق تلك النصوص إذًا بواقعٍ سوداوي، فتصير مرآته، وقلما نجد سردياتٍ استفاضت بشرح المتغير الاجتماعي الاقتصادي، الذي أنتج سلطةً متغولة، كالتي نعرف منذ نصف قرن، وعلى أي حال، فإن روايتي (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة)، و(لمار) مثالان على ذلك.

وقلما نجد سردياتٍ لسوريين اهتمت بالشخصيات المتحولة، أو بالحدث المتحول. ربما لأنها قاست النص الروائي، على مسطرة النص الواقعي الثابت والمقفل في نهايته، فامتلك النص الروائي عن غير قصد الأبعاد المكانية والزمانية للنص الواقعي. ولعله أيضًا الشغف بالهندسة هو الذي أوصلَ أغلب السرديات إلى مصب السوداوية الأدبية، هناك حيث يتساوى مقاس السرد الروائي مع مقاس السرد الواقعي؛ فيصير الاثنان نصًا واحدًا.

مقالات ذات صلة

إغلاق