مقالات الرأي

القطيعة بين التيارات الإسلامية المعتدلة والتيارات المتطرفة

شكّل نشوء الكيانات الإسلامية المسلحة حالةَ انشقاق في المعارضة والثورة السوريين، ليس على صعيد البنى فحسب، في وضعٍ كان يفتقر أصلًا إلى كيان سياسي وطني جامع، بل شمل ذلك، أيضًا، خطابات هذه الثورة، إذ أزيحت الخطابات المتعلقة بالحرية والمواطنة والديمقراطية لصالح خطابات دينية متعصبة وإقصائية، كما شمل ذلك النكوص عن شعار: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، لصالح تقسيم السوريين، على أسس طائفية ومذهبية وإثنية.

كانت معظم كيانات المعارضة قد تأخّرت كثيرًا في حسم موقفها من تلك الكيانات المتطرفة، ومن ضمنها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا)، بعد كثير من التخبط، وطول تردّد، أو تمنّع، على الرغم من أن الكيانات المذكورة أضرّت بإجماعات السوريين، وبثورتهم، وبالتعاطف الدولي معهم، منذ صعودها في المشهد السوري، بأطروحاتها المتطرفة، الدينية والطائفية، وطريقة ممارستها السلطة في المناطق “المحررة”، وانتهاجها القسر والعنف لفرض تصوراتها عن العيش، وبحكم تبعيتها لتنظيم “القاعدة”، علمًا أن تلك الكيانات لعبت دورًا كبيرًا في إزاحة “الجيش الحر” من المشهد، فـ “جبهة النصرة”، مثلًا لم تحسب نفسها يومًا على الثورة، ولم تتبن أهدافها، وثمة شبهات كثيرة تحوم حول وضعها.

مع ذلك، فإن حسم معظم كيانات المعارضة لموقفها جاء مشوبًا بالشبهات، لأن بعضها ما زال يتبنى أطروحات الجبهة نفسها، ولأن هذا التحول حصل نتيجة ضغوط خارجية، وبناء على التوافق التركي – الروسي، وبدفع من المفاوضات التي انطلقت في العاصمة الكازاخية: أستانا، في مطلع العام 2017، أي إن موقفها لم يأت نتيجة قناعة ذاتية من تلك الفصائل بضرر هذه الجبهة، أو نتيجة رؤيتها لمصلحة الشعب السوري، وطبعًا ليس نتيجة لمراجعتها أفكارها وطرق عملها.

المشكلة هنا أن الأمر لا يتعلق فقط بكيانات المعارضة عمومًا، وإنما يتعلق بالتيارات الإسلامية المعتدلة، أو التي تقدم نفسها باعتبارها مدنية ومستنيرة وليبرالية، فهذه لم تذهب في قطيعتها مع “جبهة النصرة”، وأخواتها، إلى حد تفنيد أو دحض ادعاءاتها التي تتغطى بالدين، لفرض هيمنتها وتبرير انتهاجها القسر والإرهاب، من مثل الدعوة إلى الجهاد، أو تطبيق الحدود، أو الحكم باسم الشريعة، أو الحاكمية، وغيرها من الأحكام التي تذهب إلى حد تكفير المجتمع، وادعاء احتكار تمثيل وتفسير الإسلام، والوصاية على المسلمين.

أقصد هنا أنه إلى جانب المعركة ضد الاستبداد، فإن الصراع على تمثيل الدين، أو على مقاصد الدين، هو بمثابة معركة، لا بدّ منها، على الوعي، في مواجهة الجماعات الإرهابية والتكفيرية المتطرفة، التي ينبغي خوضها من قبل كل التيارات، بخاصة منها التيارات الدينية المدنية والمستنيرة، أو المعتدلة، لنزع قناعها الديني، ودحض ادعاءاتها، وتقويض شرعيتها.

المعنى من ذلك أن تلك المعركة، في مواجهة التطرف والتعصب والاستبداد المتغطي بالدين، كانت تفترض من التيارات الإسلامية المعنيّة ضرورة التمييز، أولًا، بين الدين، وضمنه الدين الإسلامي، والسلطة، أو الممارسات السياسية أو السلطوية التي تغطّت به، وأسهمت في الترويج لأنماط معينة من التديّن، دأبت تلك الجماعات المتطرفة على فرضها قسرًا. وثانيًا، تفكيك العلاقة الملتبسة والمتخيلة بين الدين والحوادث التاريخية، التي شكّلت الدين على النحو السائد الذي بتنا نعرفه به، بالرغم من اختلافه في كثير من جوانبه، عن الدين كما بدا في صورته أو في مقاصده الأولية؛ بمعنى تحرير الدين من التاريخ، وتحرير التاريخ من الدين. ومعلوم أن المشكلة هنا تكمن في أن الأديان لم تعد ذاتها، إذ إن مخيلة البشر أضفت عليها نوعًا من الأسطرة، بعد أن أسبغت على الحوادث التاريخية التي أسست لها قدسية، أو مشروعية دينية، مصطنعة بحيث أضحت جزءًا من الدين، أو إنها حلت محله؛ لا سيما مع ملاحظتنا تضاؤل مكانة القيم، وبالتالي تدني مكانة المعاملات، لصالح مكانة الطقوس والرموز والشخصيات التاريخية، في أنماط التدين السائدة، وهو الأمر الذي استمرأته الجماعات المتطرفة. ثالثًا، يفترض الكف عن ادعاء أن كل جماعة تمثل الإسلام والمسلمين، إذ إن أي جماعة سياسية، دينية أو غير دينية، لا تمثل إلا نفسها والمنضوين في صفوفها، فقط. رابعًا، هذا يتطلب مراجعة فكرة تكفير المجتمع، أي القطع معها، لأن هذه هي الفكرة هي ذاتها الفكرة المؤسسة لجماعات القاعدة و(داعش) وأخواتهما. وخامسًا، هذا يتطلب مراجعة المنطلقات التي عاشت عليها التيارات الإسلامية طوال قرن، ولم تصل بها إلى نتيجة، بل أضرّت بها وبمجتمعاتها، وبصورة الإسلام والمسلمين. هذا يعني مراجعة فكرة الخلافة، كونها ليست من الدين، والقطع مع فكرة الجهادية، لأنها بنتُ زمنها وبنت عهد الدعوة، كما يعني ذلك ترك فكرة الحاكمية، لأن الله لا يحكم، فأفعال البشر ملكهم وهم يتحملون مسؤوليتها، ولأن ذلك مجرد تبرير للاستبداد والحكم المطلق، إذ إن فئة من البشر هي التي تحكم. كما مطلوب مراجعة فكرة الحدود لأن هذه ابنة ظرفها، باعتبار أن الإسلام دين يسر ورحمة واعتدال وعدل. ومن الأجدى أيضًا تفهم مسألة الحرية، التي نص عليها القرآن الكريم بأوضح تعبير بقوله: “لا إكراه في الدين”، و”من شاء فليؤمن من شاء فليكفر”، إذ ثمة يوم للقيامة والحساب، وأخيرًا مطلوب تنزيه الدين عن أغراض السياسة، والاحتكام إلى قيمه، أي إلى العدالة والكرامة والمساواة والحرية.

هكذا ثمة شوط كبير أمام تيارات الإسلام السياسي المعتدلة أو المستنيرة، ينبغي عليها قطعه، أيضًا، فثمة فرق بين القطع مع “جبهة النصرة”، لأسباب تتعلق بالمصالح السياسية، وبين القطع معها لأسباب فكرية وأخلاقية، ولأسباب دينية أيضًا، بعد أن تم استغلال الدين لأغراض التسلط والتطرف والاستبداد. ومعلوم أن صعود التيارات الإسلامية المتطرفة والمتعصبة والعنيفة أدى إلى ردة فعل عكسية، وبخاصة أنه أدى إلى نزع شرعية التيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة، لأنها لم تميز نفسها، ولم تخض معركتها ضد التطرف الديني، وهذا ما حصل في الواقع السوري، على نحو أكثر وضوحًا، بحيث بتنا في العالم العربي، بدلًا من الحديث عن صعود التيار الإسلامي، نشهد هبوطًا له، ونزعًا لشرعيته.

مقالات ذات صلة

إغلاق