هموم ثقافية

السلطة والنص

النص البهي والمثير، الذي يشكل نقطة جذب لعصبة أو جماعة، فتنهض بهوية مجددة أو جديدة تتسع باضطراد؛ هذا النص الذي يجمع أطرافًا قد لا تكون منسجمة أو متناغمة أو متشابهة، بل قد تكون مختلفة الأصول والأجواء والمسالك وأنماط الحياة، تجمع على ضفاف نص أو دعوة، هل تستمر في الاجتماع على النص، عندما يتحول النص إلى سلطة؟

لا يمكن للنص، عندما يتحول إلى سلطة، أن يجمع، فهو في موقع المرجعية، يهيئ للاختلاف، وإن اتفق عليه في عمومه، فإنما التفاصيل والتفسيرات والتأويلات والإحالات والمفاهيم، رهينة بأن تفرق المعاني المنبثقة عنه إلى درجة التضاد، فنص واضح وبسيط على نحو ما يكتب على قارورة ماء: مياه صحية صافية، يبدو لأول وهلة، نصًا لا يمكن الاختلاف على معناه، وأن المشكلة مع هذا النص محصورة في تصديق المعلومة أو تكذيبها، لا في تفسيرها ومعانيها، أن نصدق هذا الزعم أم لا! لكن المسألة أعقد من ذلك بكثير، لأن هذا البيان المبين والواضح والبسيط، مؤهل لتصعيد الخلاف بين من يصدقه، وبحدة أشد بكثير بين من يصدقه، ومن لا يصدقه. ذلك أن تحويل النص إلى مرجعية: دليل فقهي، أو حكم تشريعي، أو وثيقة تاريخية، أو نظرية علمية، إنما يؤسس لسلطة، ويحوله إلى أداة للصراع على السلطة، أكثر من كونه بيانًا بسيطًا. المسألة حينئذ لا تقف عند زعم إعلاني بجودة المياه ونقائها، إنما تذهب إلى ما نعنيه بكل كلمة من هذه العبارة الهزيلة، ما معنى مياه؟ وهل كل سائل يبدو شفافًا هو مياه؟ وما هو مفهوم الصحة؟ أن يكون الوجه مستديرًا مشربًا بالحمرة، أن يكون القوام رشيقًا حتى كأنه خيال، وكيف تصنف مادة على أنها صحية.. إلخ. لا شك أن مفهوم النقاء سيكون أعقد بكثير، لأنه مفهوم نسبي تمامًا، ومجرد الدخول في تفاصيله يعني الدخول في غابة معتمة لا أمل بالعودة منها. هذه الجملة الاسمية الخالية من كل فعل، التي تحوي اسمًا أردف بنعتين واضحين، وليس فيها من كلمة فيها لبس، ويفترض بها ألا تثير خلافًا مطلقًا بين شخصين يصدقان ما تزعمه. عند الدخول في التفاصيل، وقبل أن تتخذ الجملة مستندًا لمصالح أو سلطات، فإنها تصعد الخلاف مع الوقت، وقد تكون أسرع مما نتخيل في تأزيمها للمعنى، إلى درجة أنها قد تفرز خلافًا بين طرفين أو أكثر، أو شخصين أو أكثر، يصل كل منهما إلى قناعة حاسمة بأن الكون لا يتسع إلا لواحد منهم، وأن على أحدهم أن يقضي على الآخرين، ليتمكن من الاستمرار في الحياة. ولعل هذا يفسر الشراسة المبالغ فيها، بين فرق وفئات تتشارك مرجعيات نصوصية أو إرثًا تاريخيًا مشتركًا، التي تتفوق على أي شراسة أخرى بين فرق وفئات لا تتقاطع مرجعياتها. ذلك أن الخلاف على ظاهر النص أمر يسير وهين، مقارنة بالخلاف على باطنه وتأويلاته واستخداماته.

الحالة (الفرقية) حملت تاريخيًا على نصوص، واستندت في جزء منها إلى صدقيتها، لكن الجزء المختلف على تأويله كان ولا زال الأكثر حدة في ترسيخ الخلاف وتصعيده، ذلك أن النصوص بحد ذاتها، تكون الأداة الأكثر فاعلية في تكوين السلطة، فالتحشيد وراء نص يعني وجود قوة هائلة جاهزة للاستخدام دون تردد، ودون عوائق، ودون أي توان أو حسابات واقعية عامة. ولأن مفهوم السلطة في الثقافات التقليدية، يرتبط بالهيمنة والجبروت أكثر من كونه مفهومًا إداريًا تنمويًا، يشكل النص أداة مثلى لجرف المجتمعات نحو الخضوع والإذعان، والانتظام في سياسات السلطة المؤولة، وإن كانت ضد مصالح الحشود، وإن أدخلت الحشود في دورات صراع مدمرة، لها تكلفة بشرية دامية ومادية هائلة. فالواقع، وإن أفرز صراعًا على المصالح، ينحو باتجاه ترشيد الصراع باتجاه الاستقرار والأمان والتنمية، أي تجنب الصراع غير المجدي، وقبول المعادلات العامة، ودفع النص إلى مقاصده العليا، لا حصره في تفسيراته الدنيا، من أجل معنى ناهض.

ولعل هذا ما يوجب تحديد وظيفة النص، في كل ظرف من الظروف التي تمر بالقطاع (المجموعة، المجتمع، الدولة، الأمة… الخ)، ووظيفة النص المتحولة تفرض بالضرورة زحزحة المعنى باتجاه ما هو أعمق وأجدى؛ إذا كانت الغاية هي تنمية القطاع، وهو ما يجعل النص كونيًا بانفتاحه على الزمان والمكان وتبدلات المعرفة. أما النص الموقوف على معنى محدد، والمنضبط في تفسير صارم وقديم ومتوارث، فإنه يكون عثرة كبرى أمام مواكبة المجتمعات للتقدم المعرفي والإنتاجي.

تختلف وظيفة النص بين النظم المختلفة للحكم والإدارة، ففي الدولة الدينية تكون الفتاوى هي الإطار العام المتحكم بكل تفاصيل المجتمع، وهي مع صرامتها وشدتها، تكون طيّعة لينة بيد السلطة الحاكمة، فدورها الأهم يتمثل في منح السلطة قداسة تضعها فوق مستوى النقاش العام، بالإحالة إلى حكم رباني يستوجب الطاعة العمياء وحسب. ولأن السلطة في هذه الحالة تدرك أن شرعيتها، وشرعية سياساتها وإدارتها للمجتمع، إنما تنبع من هيمنة النص على المجتمع، ترتبط به ارتباطًا شديدًا، مع فسح المجال لنخبة مختارة بدقة، تفهم رغبات السلطة وتمتاز بعطاء منها بميزات خاصة، فإنها تدير المعنى باتجاه رغبات السلطة في عملية تأصيلية، قائمة على التأويل الذي يفرض -فيما بعد- تفسيرًا حازمًا لا يسمح لأي تأويل آخر أن يناهضه.

أما في السلطة المدنية، فإن النص تختلف قدسيته دون أن تخف شدته، فالنص هنا يسوق على أنه الهوية الجمعية لمجتمع، وأي خروج عليه يمثل خروجًا على المجتمع وخيانة له، وهذا ما شهدناه خلال قرن مضى، في الأيديولوجيات القومية والحزبية، التي حلت محل السلطة المقدسة دينيًا، فعلى الرغم من أن النص هنا ليس مطلقًا ولا كونيًا، فإنه يحتفظ بكونه حاسمًا، على أنه يعبر عن التطلعات العليا للمجتمع، هذه التطلعات التي تستوجب على الأفراد أن يرضخوا لها، وإن أخلوا بالإذعان، فإنما هم يخونون المجتمع في سبيل مآربهم الخاصة أو أفكارهم المسمومة.

لا شك أن الإنسان كائن أيديولوجي، وفي العمق من الأيديولوجيا ثمة نظام تسويغي أشبه بنظام الفتاوى، ولكل إنسان شريعته الخاصة التي يتعاطى بها مع المجتمع والبيئة والظروف، ولا يمكن تعطيل هذا البعد أو القفز عليه. إلا أن حصر قدسية النص في إطار هوياتي وسلوكي، غير متعارض مع القانون العام، يحيد هذه الأيديولوجيا ويلجمها عن الاستبداد والإكراه، عندما يكون الواقع بأبعاده ومستجداته ومتطلباته، هو الحقل الوحيد للقانون. وهو الكفيل بجمع الأفراد على اختلاف هوياتهم، في مجتمع متوافق لصالح الجميع، ذلك أن الحد من التأويل السياسي، يدفع السياسة نحو التنمية المستدامة كمنهجية لاستقرار المجتمع وتقدمه وحصانته.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق