أدب وفنون

المقامة التعفيشية

حدثني خاسر بن رباح قال:

اشتهيت أن أزور بيتي في عربين، بعد أن هزم جيشنا الباسل جموع الإرهابيين، الذين عاثوا فسادًا في ديار المسلمين. وكنت قد فارقته منذ سنين. فقد حملت لنا الأخبار، أنباء ذلك الانتصار، الذي انتشر خبره في الأمصار، فشتت شمل الإرهابيين في القفار. وألحق بمنشآتهم الخراب والدمار.

وطالما فرحت بما جرى من القلب، وذهبت إلى بيتي لا أعي الدرب. وأنا في غاية الشوق، محاذرًا أن أمرّ من السوق، خوفًا من أبناء الحرام، الذين يتربصون لي في الأحلام، ويحرمونني لذيذ المنام.

كان بيتي في مكان قصيّ، والطريق إليه وعر غير سويّ، ما جعلني أطمئن، أن لن يقربه أنس ولا جن. فقد تركت فيه جميع أمتعتي وتلادي، وكامل عدتي وعتادي، وذكريات أولادي، وما ورثته عن آبائي وأجدادي. وأنا أرجو أن أجده سالمًا، وبرؤيته بعد هذه السنين حالمًا. ولم أكن بما خبّأ لي الزمان عالمًا.

وما إن أقبلت من بعيد، وأطللت على ذلك المجد التليد، حتى ظهر لي بيتي العتيد، بشكل غريب، ووضع مريب، يبدي لي نكرًا، ويمكر لي مكرًا، كأني قد زرته بكرًا.

فأخذت أتلو من سورة البروج، كأني أرى ياجوج وماجوج: “واليوم الموعود، وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود، هل أتاك حديث الجنود، فرعون وثمود”.

وكي أتأكد مما رأيت، أخذت أقترب من البيت، والشديد لدي كما الزيت. فوجدت جنود فرعون يفترشونه، لا يأبهون بما يقترفونه، يأكلون ويشربون، وعلى أغراض البيت يختلفون. وفيما بينهم يتقاسمون. وعلى كل غرض يقتتلون، هذا يريد سجادة الصالون، وذاك يريد ما يحتويه المطبخ من طناجر ومعالق وصحون. وهذا يريد مكنسة الكهرباء، وذاك يريد صيدلية الدواء.

وقد رأيتهم يحملون الغسالة والبراد والتلفزيون. وبلهفتي لا يأبهون. وكان هذا آخر ما حملوه، وفي سيارة زيل 57 وضعوه، وكل ما هو صالح أخذوه، حتى غدا البيت خاليًا، وأخذ يشكو لي خلوه باكيًا؛ إذ لم يتركوا ولا خذاء باليًا. فصرخت بهم عاليًا:

“حتى صنابير الماء، وأباريز الكهرباء، أيها الجنود النبلاء. أليس لديكم وازع من ضمير. ولحرمة البيوت من تقدير، إن الله كبير، يفعل بكم ما يريد، فهو السميع المجيد”.

فتقدم مني كبير المعفشين، وتحدث معي بكل لطف ولين، كما يحدث في أساطير الأولين: “كان يا ما كان، في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، كانت الأرض وما عليها لواليها، وكان يعبده كل من يعيش فيها، ويخضع له قاصيها ودانيها. فلا راد لقضائه، ولا هارب من فضائه. وبقي الأمر على هذه الحال، حتى حدث في الأرض ذلك الزلزال. وهدد عرش مولانا بالزوال. فهب رجال مولانا السلطان، ومن له في الممالك من أعوان، يريدون إعادة كل شيء إلى ما كان. ونحن من أعوانه النجباء، وخواصه الأقوياء، نريد أن ندفع عن مولانا السلطان هذا البلاء، ونعيد لجلالته ذلك البهاء. فهذه الأمتعة لمولانا، الذي خلقنا فسوانا، وإلى نعمة التعفيش هدانا. فعلينا أن نوقف هذا الداء الوبيل، ونزجي التحية إلى مقامه الجليل، ونعيد له كل شيء جميل. لقد كنت فبنت. لأنك للشيطان ارتهنت، وللإرهابيين أذعنت”.

فصحت مستغيثًا لا إله إلا أنت. وأرغمت على الإذعان للأمر، فانكفأت أبكي جنى العمر، وأندب رزقي ومنتهاه. فلا حول ولا قوة إلا بالله. وعدت من حيث أتيت، وأنا ذاهل مما رأيت. فتبًا للمعفشين، وعليهم اللعنة إلى يوم الدين. آمين.

مقالات ذات صلة

إغلاق