مقالات الرأي

عن الكيان السوري الجامع وعن سورية التي نريد

ثمة عدد من الورشات أو اللقاءات الناشطة هذه الأيام، في الداخل والخارج، في مختلف تجمعات السوريين، معظمها يتمحور حول ثلاثة جوانب: أولها مراجعة التجربة الماضية ونقدها، وربما القطع معها، بخطاباتها وبناها وأشكال عملها، لا سيما على ضوء الإخفاق في الأحوال التي آلت إليها. وثانيها مناقشة كيفية تشكيل كيان سياسي وطني جامع حقًا لكل أو لأغلبية السوريين، بغض النظر عن أي هويات أو انتماءات دينية أو إثنية أو فكرية. وثالثها البحث عن تصور لشكل “سورية التي نريد”، أي سورية المستقبل، كدولة مؤسسات وقانون ومواطنين، متساوين وأحرار.

بداية، يمكن القول إن ما يجري إنما هو تعبير عن ظاهرة صحية، وعن ضرورة ملحّة، ولو أنها ظهرت متأخّرة ومبعثرة، بَيد أنه يعبّر، أيضًا، عن انتهاء المراهنة على المعارضة الرسمية، بكياناتها القائمة (السياسية والعسكرية والمدنية)، أولًا، نتيجة إخفاق هذه الكيانات في التحول إلى كيان سياسي جمعي لكل السوريين، أو لمعظمهم. وثانيًا، بحكم ارتهاناتها لأجندات أو توظيفات أو إملاءات خارجية، أضرت بالسوريين وبسلامة مسار ثورتهم. وثالثًا، بواقع بقائها على شكل بنى مغلقة، غير منفتحة، أو تفصلها هوة كبيرة عن مجتمعات السوريين. رابعًا، لأن كل ذلك ارتبط بالمسارات الضارة التي أخذت إليها الثورة السورية، أي خصوصًا بنتيجة التعويل على الخارج، والعسكرة، والانزياح عن الخطابات الوطنية الديمقراطية، لصالح الخطابات الطائفية – الدينية، التي تتغطى بها الكيانات السياسية والعسكرية، التي تحكمت في مسارات الثورة، بنمط خطاباتها وطرق عملها، طوال السنوات الماضية.

بديهي أن القول بكيان سياسي جامع لا يعني إنشاء كيان حزبي، كما لا يعني مصادرة أي كيان حزبي ناشئ، أو يمكن أن ينشأ، وإنما الحديث هنا يدور عن إطار وطني على شكل جبهة، أي كيان وطني متعدد التيارات والكيانات والمرجعيات الفكرية والسياسية، بحيث يأتي معبرًا عن كل السوريين، أو عن أغلبيتهم، وبحيث يكون ممثلًا لهم أو لأغلبيتهم، لذا فإن المقصود بناء كيان سياسي يقوم على قواعد مؤسسية وديمقراطية، لا يوجد فيه مركز ولا أطراف، ولا وصاية، ولا أبوية، من أحد على أحد، لا من شخصيات ولا من كيانات.

من جهة أخرى، فإن ما تقدم يؤكد حاجة السوريين إلى صوغ إجماعات وطنية جديدة، إذ لا يمكن بناء سورية المستقبل، من دون إجماعات تشكل هوية السوريين، وتعبّر عن إرادتهم الحرة، كمواطنين أحرار ومتساوين ومستقلين؛ حيث إن المواطنة لا يمكن أن تتأسس، أو تتحدد، ككيان سياسي حقوقي ومعنوي، من دون هذه الأقاليم الثلاثة، أي من دون تمتع المواطن بالحرية، بمعناها الكامل، ومن دون تمتعه بالمساواة مع غيره، من دون أي تمييز على أي أساس، لا طبقي ولا ديني ولا إثني ولا ثقافي، ومن دون استقلال عن الهويات القبلية، والاندماج بالهوية الوطنية السورية؛ هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإنه لا يمكن صوغ تلك الإجماعات الوطنية، من دون الحديث عن إقامة دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، دولة تتأسس على الفصل بين السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، في نظام سياسي يتأسس على تداول السلطة، واعتبار أن السيادة للشعب المتألف من مواطنين أحرار ومتساوين ومستقلين.

على ذلك؛ فإن فكرة سورية المستقبل، المتحررة من الاستبداد بكل أشكاله، المدني أو الديني، في دولة مدنية، أي بالتحديد لا تسلطية ولا عسكرية ولا دينية ولا طائفية، هي الأساس لإقامة الدولة الديمقراطية التي لا يمكن الحديث عنها، من دون المقدمات المذكورة؛ لأن الديمقراطية من دون كل ذلك، أي من دون مواطنة ومن دون دولة مؤسسات وقانون، ستغدو مجرد ديمقراطية انتخابات، أو مجرد ديمقراطية توافقية، بين جماعات دينية وإثنية؛ الأمر الذي يقوض مفهوم ومكانة المواطنة، وحقوق المواطنين.

المشكلة أن ثمة إجماعًا، في كلّ ورشات العمل واللقاءات، على نقد التجربة الماضية التي أوصلتنا إلى هذه الحال؛ فكلها تتحدث عن ضرورة إقامة كيان وطني جامع، كضرورة تاريخية ملحة، وكلها تطرح الوثائق بشأن تصوراتها عن سورية المستقبل (التي نريد) التي لا تختلف مع المرتكزات المطروحة في هذه المادة، وإن طرحتها بهذه الطريقة أو بغيرها، لكنّ كل واحدة منها تعتقد بأنها هي المجموعة “المختارة”، أو تعدّ نفسها الإطار الذي ينبغي أن تصبّ فيه، أو تنطلق منه هذه العملية.

لذا فإن السوريين، اليوم، بعد كل هذه التجربة، معنيون بإنضاج نظرتهم إلى أحوالهم، وتعزيز الثقة بينهم، واستنباط الدروس من التجربة الماضية. والمسألة هنا لا تتعلق بتجريب المجرب، أو غير ذلك من المفاهيم السلبية، بقدر ما تتعلق بالحاجة إلى الاستثمار في كل الطاقات والخبرات، والانفتاح على الكل الوطني، وفق معايير موضوعية، لا شخصانية، وتكريس النزعة الديمقراطية، في واقع يحتاج فعلًا إلى تأطير ما يمكن تسميته “التيار الوطني الديمقراطي”، على تعدديته، في مجتمعات السوريين.

مقالات ذات صلة

إغلاق