مقالات الرأي

التربية على المواطنة

المواطنة مفهوم سياسي تبلور في سياق بناء الدولة الحديثة، وهي لن تترسخ ممارسةً إلا بترسيخها مفهومًا، من خلال ربطها بمفهوم “الحداثة السياسية”، وكل دولة لا يكون فيها المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات تظل مهددة في استقرارها واستقلالها، بل تصبح مع الزمن “دولة فاشلة”. وليس المطلوب لإنجاح مبدأ المواطنة صهر المواطنين في قالب واحد، بل اندماجهم وفق الحد الضروري الذي يضمن لهم العيش المشترك، أي أنه اندماج لا يلغي التنوّع والاختلاف، بل يعتبرهما ثراءً إيجابيًا مطلوبًا.

إنّ التربية على المواطنة ترتبط بثلاثة مستويات: أولها، التعليمي الذي يتعلق بالمناهج الدراسية، والأساليب التدريسية بحيث تصبح مادة حاضرة في علاقة التلميذ بالمربّي، وعلاقتهما معًا في المنهج الدراسي، بما يجسد قيم الكرامة والمساواة والحرية وحق الاختلاف والاعتقاد والحق في المشاركة. وثانيها، التربوي الذي يتطلب دروسًا تطبيقية وورشات عمل وندوات، حسب المراحل العمرية، إضافة إلى أسلوب حياة يومي في علاقة الطالب بالأستاذ والإدارة، بما يؤدي إلى تكوين شخصية منفتحة على الآخر، وقبول حق الاختلاف، وثقافة المساواة وقيم المواطنة. كل ذلك من خلال عملية بناء وتراكم وتطور تدريجي طويل المدى. وثالثها، الثقافي والمجتمعي، إذ لا يكفي حشو رؤوس الطلاب بالمعلومات عن الحرية والمساواة والعدل واحترام حق الاختلاف، لكنّ المهم أن يمارسوا تلك الحقوق، من خلال إعلاء قيم الحياة والمساواة والعيش المشترك في المجتمع.

وإذا ما زُرعت هذه القيم، منذ الصغر، فإنها ستزدهر وتصبح جزءًا من ثقافة المجتمع، التي لا يمكن التجاوز عليها، خصوصًا أنّ الناس سيمارسونها كسلوك يومي، سيكون من الصعب انتهاكها، لأنها ستصبح عادة يصعب اقتلاعها.

إنّ التربية على المواطنة تتطلب، إضافة إلى المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية، شعور المواطن بـ “مواطنيته”، من خلال اشتراكه في الشأن العام لوطنه، خاصة في عصر العولمة ومواقع التواصل الاجتماعي التي تيسّر له إمكانية التعرّف إلى أنماط حياة المواطنين في الدول الأخرى، حيث يتمكن من التواصل مع الآخرين، ويتعرّف إلى حجم الحريات التي يتمتعون بها، في الفكر والتعبير والتنقل والتملك والعمل.

وطبقًا للمستويات السابقة، فإنّ مشروع التربية على المواطنة ليس مشروعًا تعليميًا أو تربويًا فقط، وإنما هو مشروع اجتماعي -تربوي– ثقافي، يتعلق بالعقل والتنوير والقيم والحقوق، التي لا يمكن أن تكون إلا بدمج المجالات المختلفة، الفردية والاجتماعية والثقافية والقانونية والسياسية.

إذن؛ لا بدَّ من تكريس المواطنة لاحتضان تنوّعنا، العرقي والديني والفكري والسياسي، إثراءً لجدلية تطورنا، وليس سببًا للصراع والفتنة اللذين يؤديان إلى التآكل الذاتي والانهيار.

وهكذا، ينبغي التركيز على الجيل الناشئ وتهيئته ليكون سلّم الانتقال التدريجي لسورية الجديدة، القائمة على المواطنة والديمقراطية، واعتماد الكفاءة والنزاهة والولاء للوطن والشعب، أسسًا حصرية لعلاقاتنا الداخلية، وليس الانتماءات الفرعية، القومية والطائفية والمذهبية.

لقد أكدت ثورة الحرية والكرامة أنّ حالة المواطنة والاندماج الاجتماعي في سورية تتسم بإعادة إنتاج وترسيخ الأطر والعلاقات التقليدية، الطائفية والمذهبية والعشائرية والقومية، وما تنطوي عليه من انقسام اجتماعي يهدد باحتمالات الحروب الأهلية.

من هنا، فإننا أحوج ما نكون إلى التربية على المواطنة السورية، باعتبارها عملية شاقة ومتواصلة، بعد نصف قرن من هيمنة نظام الاستبداد على حياة السوريين، إذ ينبغي السعي لإعادة تكوين المواطن السوري، وتنمية وعيه بنظام حقوقه وواجباته، وتطوير مستوى مشاركته في الشأن العام وحياة جماعة المواطنين الآخرين، باعتبار ذلك وسيلة من وسائل تنوير المواطن بحقيقته، من حيث إنه عضو حرٌّ في الدولة السورية، ويتساوى مع سائر مواطنيها في الحقوق والواجبات، ويشارك في حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

إنّ إشاعة مفهوم المواطنة، في التنشئة السياسية والاجتماعية والثقافية، يؤدي إلى نمو الوعي العام بأهمية الحوار مع الآخر، بوصفه وسيلة لتحقيق التضامن الاجتماعي، وبوصفه وسيلة لمحاولة التوصل إلى الأحكام الرشيدة.

مقالات ذات صلة

إغلاق