هو القطاف منذ الانعطاف الذي حدث بعد حلب…
استثمر الروس “انتصارهم”، عبر قوتهم الساحقة، لفرض مسرحية طويلة خبيثة، اسمها “مناطق خفض التصعيد”، زيّنوها بالكثير من التزويق عن أهمية وقف إطلاق النار، ولو جزئيًا، وتأمين الحماية للمدنيين، وتوفير مناخ للتسوية السياسية.. و”وحدة سورية”.
جاؤوا بالفصائل المهزومة، المأزومة للاستعاضة عنها بالهيئات السياسية، وفرض ما يريدون عبر أمر واقع بدا لهؤلاء وكأنه لا خيار لهم، ولا “حيلة” بيدهم سوى البصم على الشروط التي وضعتها روسيا، تحت عنوان “خفض التصعيد”.
قسّموا المناطق التابعة للجيش الحر وأشباهه إلى أربع، وجرت مطالبات لتوسيعها، فوافقوا وكأنهم استجابوا، ثم بدؤوا بقضم وسحق كل منطقة إثر أخرى، حتى إذا ما انتهوا منها، عبر سياسة الأرض المحروقة، واستهداف الحاضنة الشعبية، وتدمير البنية التحتية؛ انتقلوا إلى غيرها. حدث ذلك في داريّا، وحمص، ثم الغوطة، فريف حمص الشمالي.. فدرعا هذه الأيام، والقادم إدلب.
فرضوا على درعا اتفاقية خاصة، تحت عنوانٍ كاذبٍ يقول إن الولايات المتحدة لا تريد إشراك إيران باتفاق درعا، فحضرت ووضعت الأردن واجهة، وكانت “إسرائيل” حاضرة بقوة، وتكلموا على ضرورة إبعاد الوجود الإيراني ومن يتبع له من الميليشيات الطائفية، إلى مسافة تقع بين 30 – 50 كم، وأبعدوا تركيا من الاتفاقية.
في الوقت ذاته، توقف عمل “غرفة الموم” التي تقودها أميركا، وتبعها قرار بإيقاف أي دعم لوجستي وبالسلاح لفصائل درعا، وجميع الفصائل المحسوبة على “الجيش الحر”، ثم تحذيرها من القيام بأي عمل عسكري، ولو إطلاق قذيفة مدفعية، خارج حدودها، خاصة عندما كانت معارك السحق للمناطق الأخرى تستدعي النجدة، وواجب أن تقوم الفصائل في المناطق الأخرى بإسناد تلك الجبهات، ولو بالحدود الدنيا، وسط أجواء من التشكيك بامتناع فصائل الجنوب، وريف حمص الشمالي عن مؤازرة إخوتهم الذين يواجهون جحيم القصف، والنزوح، وبما يخلق أجواء من العداء، والشماتة، والقوقعة، وحين جاء دور ريف حمص الشمالي حدث الشيء ذاته، استفراد الفصائل هناك وعدم التمكن من الحصول على أي إسناد، ولو بالحدّ الأدنى، وكذلك في القلمون، وفرض “مصالحات” قسرية، وعودة النظام مع شرطة روسية.
جاء الدور على درعا، وكأن تلك الاتفاقية التي عقدت، وهي تنصّ على وقف إطلاق النار وحماية درعا من تدخل النظام، كانت مجرد مخدر مؤقت لضرب لاقتحام درعا، وفرض مصالحة مهينة أخرى، ريثما ينتهون من ريف حمص الشمالي، وهو ما يحدث هذه الأيام، ووسط تخاذل فاضح من الولايات المتحدة الأميركية، وعجز مدمن من قبل الاتحاد الأوروبي، وصولًا إلى إنهاء وجود الثورة في درعا.
درعا هي أيقونة الثورة وعاصمتها الفعلية، وهي التي قدّمت أكبر مهر للحرية شهداء ودمارًا ونزوحًا وتهجيرًا، وفصائل الجنوب، قياسًا بغيرها، كانت بشكل عام متوافقة على التنسيق فيما بينها، وعدم فتح معارك بينية وجانبية، وليس هناك وجود فعلي للقوى الإرهابية الداعشية، أو التابعين لـ “هيئة تحرير الشام” ضمن حدود المحافظة، لكن أمورًا متراكبة ومتداخلة تتفاعل منذ أعوام للوصول إلى هذه النتيجة القاسية.
1 – لقد عجزت الفصائل التابعة للجيش الحر، أو المحسوبة عليه، داخل المنطقة الواحدة، أو على صعيد البلاد، عن توحيد صفوفها في قيادة موحدة، مهنية، واحترافية، وتملك خططًا استراتيجية وتكتيكات مناسبة، وتنسيقًا في أوان، وأمكنة المواجهات، وظلّت الفرقة، والانقسامات، والتوزعات المتناثرة هي السمة الغالية.
هذه الحالة التي كسرت ظهر الثورة، ومنعتها من الانتصار الحاسم، يوم كان ذلك ممكنًا، لم تكن نتاجًا طبيعيًا، وذاتيًا، بل كانت التعبير الصارخ عن إرادة إقليمية ودولية عملت باستمرار على استمرار الشرذمة، ومنع أي عمل توحيدي، أو اتباع العمل العسكري للقيادة السياسية، وكانت الأوامر والتوجيهات صريحة، ووقحة أيضًا، ومتناوبة بين الدول الممولة، وذات التأثير.. بما أوجد بيئات خصبة لنمو ظاهرة أمراء الحرب، واعتلاء كثير من الذين لا علاقة لهم ولا خبرة بالعمل العسكري، مواقع قيادية، بينما آلاف الضباط المنشقين مهملون، وبعيدون من القيام بدورهم المأمول.
2 – كانت غرف (الموم) و(الموك) هي القائد الفعلي الذي يتدخل بمسار المعارك، وأمكنتها، وهي التي تقوم بالجهد الرئيس في التمويل والتسليح، ورسم الخطط، وقد قررت منذ أزيد من تسعة أشهر التوقف عن أي دور، وتبعها قرار من الإدارة الأميركية بتوقف جميع أشكال الدعم لفصائل “الجيش الحر”، ضمن كذبة رائجة عن إنهاء العمل العسكري في الصراع، وفتح الطريق للحل السياسي.
3 – أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة (أيلول/ سبتمبر 2017)، أبلغ وفد الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات بشكل جلي وواضح بتوجهات وقرارات “المجتمع الدولي”، وفي تناوب اللقاءات مع عدد كبير من المسؤولين العرب والغربيين، كان الكلام واضحًا، ويتلخص بالتالي:
“أنتم فشلتم في إسقاط الأسد عسكريًا، وعليكم العمل سياسيًا فقط – الأسد باق على الأقل للمرحلة الانتقالية – منع ممارسة أي دور عسكري لأن ذلك الدور انتهى ولن يقدّم له أي دعم…” وكلام طويل بهذا المضمون.
4 – خضعت درعا بالذات لاتفاقية خاصة مستقلة -شكليًا- عن الاتفاقات الأخرى التي رعتها القوى الضامنة في أستانا، وكانت أميركا وروسيا الطرفين الرئيسين، إضافة إلى الأردن، بينما ظهر الدور الإسرائيلي بارزًا في الخلفية وبنود الاتفاق، لكن يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تخلت عن جميع التزاماتها في تلك الاتفاقية، وتركت الأمر لروسيا لتقوم بدورها المعروف. أكثر من ذلك ظهَر أن إبعاد الوجود الإيراني من 30 – 50 كم، كذبةٌ هو الآخر، حيث إن المليشيات الشيعية في طليعة القوى التي تشارك في مهاجمة درعا.
5 – مؤشرات، بله معلومات متواترة، تؤكد وجود اتفاق كبير بين أميركا وروسيا حول درعا، والجنوب السوري، وربما حول سورية بالكامل، وتحديد مناطق النفوذ، ومستقبل الحالة السورية، لهذا تُترك درعا للذبح، ولهذا يلتزم النظام الأردني بإغلاق حدوده بوجه عشرات آلاف النازحين الهاربين من جحيم الموت والفناء، ولا يجدون مأوى، أو مكانًا.. فيفترشون العراء.. دون أي دور فعال للأمم المتحدة، أو للدول العربية، أو غيرها ولو بالجانب الإنساني، وبما يخلق حالة شعبية ضاغطة على المقاتلين الذين تصدّوا ببسالة لقطعان النظام والميليشيات الطائفية، وللقصف الروسي الجحيمي.. وصولًا إلى الموافقة الإرغامية على وقف إطلاق النار، وعقد “مصالحة” تعسفية على غرار ما عرفته الغوطة وريف حمص الشمالي، وإنهاء وجود الثورة في هذه المنطقة الاستراتيجية.
6 – السؤال الكبير: ماذا يعني تجريد المعارضة من مواقع قوتها؟ وكيف ستتعامل في ما يسمى بالحل السياسي، حين تفقد جميع أوراقها؟
هل المطلوب استسلام المعارضة نهائيًا، وإلزامها بالمصالحة مع النظام ضمن شروطهم؟ وقد قالها البعض صراحة: “عليكم القبول بمخرجات سوتشي.. وإلا؛ فابحثوا عن أمكنة أخرى”.. ومن الذي يقود هذه اللعبة الخطيرة سوى الإدارة الأميركية، بالتنسيق والتفاهم مع المحتل الروسي.