صدر عن مجموعة من السوريين، قبل أيام، وثيقة فكرية – سياسية، عنوانها: (رؤية إلى واقع ومستقبل سورية)، هي نتاج نقاشات واسعة وتبادل في الرأي وخلاصات، جرت طوال عامين تقريبًا، وشارك فيها، بشكل أو بآخر، عشرات الأشخاص من المهتمين، وتوجت في ملتقى عُقد في برلين (قبل أشهر).
كما بات معلومًا، فإن تلك الورقة (نشرتها جيرون كاملة) تضمنت أولًا، مراجعة نقدية جريئة لمسار الثورة والمعارضة السوريين، والمعضلات التي اكتنفت عملها على صعيد الخطابات والكيانات وأشكال العمل. ثانيًا، عرضًا لبعض القضايا المتعلقة بالقضية السورية، في معطياتها ومشكلاتها الذاتية وطبيعة المداخلات الخارجية فيها. ثالثًا، محاولة لوضع خطوط عريضة لسورية المستقبل، التي تنشد استعادة المقاصد الأساسية والنبيلة التي انطلقت من أجلها ثورة السوريين، والمتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة وبناء دولة المؤسسات والقانون والديمقراطية، وذلك في سعيها لتشكيل نوع من إجماع سياسي يسهم في صوغ هوية وطنية، أو جمعية للسوريين، من دون تمييز لأي سبب كان. رابعًا، عرضت الوثيقة أيضًا لمحددات الحل السياسي المنشود، والعادل، وقضايا العدالة الانتقالية، والمرحلة الانتقالية، والمصالحة والاندماج الوطنيين.
على أي حال، فإن الغرض من هذه المادة ليس عرض الأفكار الواردة في الوثيقة، فهي تقدم نفسها بنفسها، وإنما الهدف هنا طرح الملاحظات الآتية:
أولًا، لا تدّعي هذه الوثيقة أنها تأتي باكتشافات جديدة، أو أنها الوحيدة من نوعها، أو البديلة، أو المطلقة، أو المنزهة عن الخطأ، إذ ثمة وثائق أخرى مهمة، بمعنى أن تلك الوثيقة انبنت على نقاشات وحوارات ووثائق ووجهات نظر سابقة، تم طرحها في أوراق وفي ورشات عمل وفي مقالات لكتاب ومثقفين، كما أنها نتاج التجربة الكفاحية الطويلة والمريرة والمكلفة للثورة السورية. لذا فإن ما حاولته تلك الوثيقة هو تقديم خلاصات إجمالية لكل ذلك، وفق رؤية نقدية ومسؤولة، من خارج الأجندات الحزبية، والخلفيات الأيديولوجية، والحسابات الشخصية؛ ما يمكّن السوريين من استعادة الخطابات الأساسية لثورتهم، وإقامة كيان سياسي جمعي يعبّر عنهم، ويدير كفاحهم، وهذا هو الغرض الأساس من الوثيقة أو ما يميّزها.
ثانيًا، إن السوريين بحاجة ماسة اليوم، بعد كل الإخفاقات والإحباطات الحاصلة، إلى حد أدنى من الإجماع الوطني، للحفاظ على هويتهم، وأيضًا، لاستعادة المقاصد الأساسية لثورتهم، بعد أن تمت إزاحتها لصالح خطابات طائفية ودينية، ثبت أنها أضرت بإجماعات السوريين وبوحدتهم كشعب، وبثقتهم ببعضهم، ناهيك أنها قوضت صدقية ثورتهم، وقدمت خدمة مجانية للنظام.
ثالثًا، ما زال السوريون بحاجة إلى كيان سياسي جمعي، يعبّر عنهم، وينظم طاقاتهم، ويدير كفاحهم، كما قدمنا، من أجل استعادة حقوقهم، وهو الأمر الذي عجزت عنه الكيانات السائدة، وهذه المهمة لا تقع على عاتق جماعة معينة، وإنما تقع على عاتق الجميع، الذي يفترض أن يشتغل على هذه المهمة، بمسؤولية عالية وبروح وطنية، بعيدًا عن الحسابات السياسية والمرجعيات الأيديولوجية والحساسيات الشخصية، فهذا أقل شيء يستحقه الشعب السوري من معارضته، بعد الأثمان الباهظة التي دفعها طوال السنيين السابقة، إذ المفروض من المعارضة أن تكون على قدر المسؤولية وعلى قدر التضحيات المبذولة.
رابعًا، الوثيقة المطروحة ليست نصًا مقدسًا، أو نصًا يستعصي على النقد والفحص والمساءلة، وأصلًا لا يوجد نص كهذا، كامل أو نهائي أو مطلق، لذا فإن هذه الوثيقة، مثل أي نص آخر، تستحق النقد وتحتاج إليه وتطلبه، وذلك لتلافي الثغرات فيها، وسعيًا لتطويرها وإغنائها.
خامسًا، هذه الوثيقة، كما غيرها، تحتاج إلى عديد من الدراسات والأبحاث لتطوير وتأصيل مفاهيمها، ولعرض الإشكالات المتضمنة فيها، كما تحتاج إلى طرح عديد من الأسئلة حول كثير من المسائل المتضمنة فيها، لذا فإن هذا الأمر منوط بكثير من الكتاب والباحثين، كما هو منوط بالجماعة التي أصدرتها.
سادسًا، بعد كل تلك الملاحظات، ثمة مسألة أساسية مفادها أن التاريخ لا يصدر فقط عن وثائق، ولا ينصاع لأوراق العمل والبرامج، أو النظريات، لذا فإن الفكرة التي مفادها أن الحركة، أو الممارسة، يجب أن تخضع لنظرية (وهذه غير الأيديولوجيا) هي فكرة صحيحة وصائبة وفي مكانها، بيد أن ذلك لا يكفي؛ إذ إن أيّ برنامج إن لم تتوفر له القوى التي تحمله، أو لم تتوفر الديناميات التي تحتضنه وتتوافق معه، فلن يصل إلى أي مكان، وهذا ما يعنيه توفر الشرط الكافي، أي تضافر الشرطين الذاتي والموضوعي. مع ذلك فإن ما يجب أن ندركه، قبل كل ذلك، هو ضرورة توفر جماعة سياسية، أو كيان سياسي، يتمتع بالحد الأدنى من الصدقية الوطنية والمسؤولية الأخلاقية، لحمل تلك الأفكار أو البرامج، فهل هذا متاح؟ أو هل يدرك المعنيون هذه الضرورة الوطنية التاريخية؟ وهل يعملون عليها بصدق وإخلاص حقًا؟