تحقيقات وتقارير سياسية

“مصالحات” الذّل والقهر

الترويج “للمصالحات”، بالشكل الذي فرضه نظام الأسد، بدعم روسي وإيراني وتركي وأميركي، على المناطق التي ثارت ضد نظامه، ومحاولة إقناع الأمم المتحدة لتبنيها كنموذج لحل المأساة السورية، إنما ينطوي على مخاطر كبيرة على مستقبل سورية والسوريين؛ فهي من جهة ستبرئ نظام الأسد من كل جرائمه ضد السوريين، ومن جهة أخرى سيضفي اعتمادها الشرعية والقانونية على كل مخرجاتها، وخاصة في ما يتعلق بعمليات التغيير الديموغرافي التي طالت مئات الآلاف من السوريين الذين أجبروا على ترك مناطقهم، بصفتها “عملية طبيعية وتحصل في الحروب”، كما وصفها الأسد غير مرة، وأنها تساعد في “تنقية المجتمع السوري وصفائه وتجانسه”.

إن إطلاق صفة “المصالحات” على التسويات التي يقوم بها نظام الأسد، ومحاولة فرضها وشرعنتها دوليًا كأمر واقع، إنما يشكل تشويهًا متعمدًا لمفهوم المصالحة الوطنية، وينسف كامل القواعد القانونية والأخلاقية التي يجب أن تتوفر في المصالحات الوطنية، كما يضرب عرض الحائط بقواعد القانون الدولي الإنساني وبجميع الاتفاقات والمعاهدات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.

منذ متى كان القهر والإذلال مدخلًا لمصالحة وطنية؟! لم يحدث هذا الأمر في أي منطقة في العالم إلا في سورية، حيث النظام السوري، في جميع التسويات التي فرضها بدعم عسكري روسي كامل، كان يطلب دومًا من السكان في المناطق التي من المفترض أن يجري مصالحات معها، أن يقدموا له أثمانًا مقابل موافقته على المصالحة، كأن يعترفوا بأنهم كانوا على خطأ ويطلبون المغفرة منه، وأن من تسبب في عذاباتهم ودمّر بيوتهم وعفّش ممتلكاتهم ليسوا من جماعة النظام ولا من الجيش السوري، بل من الإرهابيين، وفوق ذلك يطلب منهم تسليم أبنائهم للقتال معه في محاربة الإرهابيين الذين سبق أن أطلق منهم الآلاف من سجونه في أيار/ مايو 2011، وليس هذا فحسب بل أوغل في قهر الناس، عندما أجبرهم على الهتاف بذلك الشعار المقرف: “بالدم بالروح نفديك يا بشار”، وعندما كان يُفرج عن مجموعة من المعتقلين يفرض عليهم الهتاف أمام كاميرات التلفزة بحياة بشار الأسد، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُعد وتحصى، فأيّ سلام وأيّ مستقبل يمكن أن ينتج عن هكذا “مصالحات قهرية”؟!

لقد أتيح لي الاطلاع على تجربة العديد من دول العالم، كتونس وجنوب أفريقيا وتشيلي والبيرو التي سبق أن مرّت بما تمر به سورية اليوم، من مآس وحروب وربما أقسى، وقد استطاع معظمها الخروج من مآسيها وطي صفحة الماضي، بفضل اعتمادها أسلوب “المصالحة الوطنية”، هذه المصالحة التي ساعدت في انتقال بلدانهم من مرحلة الظلم والاضطهاد والجريمة والسيطرة والقهر، إلى مرحلة بلسمة الجراح والتعافي من خلال إجراءات سياسية وقانونية ومجتمعية واقتصادية، كاستبدال المسؤولين والحكام الذين تولوا المسؤولية خلال مرحلة الأزمة، ومحاكمة الجناة، وتعويض المتضررين، وتكريم الضحايا، وإعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة على قواعد جديدة غير تلك التي كانت سائدة قبل حدوث المأساة… الخ.

أما ما جرى في سورية حتى الآن تحت مسمى “مصالحات وطنية”، فلا علاقة له إطلاقًا بمفهوم “المصالحة الوطنية”، بل هي لا تعدوا كونها أفعالًا وممارسات قهرية، يفرضها نظام الأسد بصفته “الغالب” على ضحاياه “المغلوبين”، فجميع التسويات التي حدثت حتى الآن عكست بوضوح حجم الكارثة التي عاشتها المناطق التي قبلت مرغمة بالتسوية، كما جرى في الغوطة والزبداني وداريّا وحوران ومخيم اليرموك… الخ، حيث اعتمد فيها نظام الاسد بقيادة روسية واضحة سياسة الأرض المحروقة والحصار الشامل، دون أي حساب لحجم الضحايا والمعاناة التي سيعانيها سكان تلك المناطق، هذه السياسية التي اكتفت بها كثير من المنظمات الدولية، ومنها الأمم المتحدة، بتوصيفها على أنها تشكّل جرائم حرب موصوفة، دون أن يتحركوا خطوة واحدة لإنقاذ هؤلاء السكان الذين حاصرتهم سياسات الأرض المحروقة التي قادتها روسيا باقتدار، وسبق أن طبقتها في غروزني.

كان واضحًا للجميع أن روسيا ربطت موافقتها على وقف الحصار والقصف والتجويع، في كل المدن والمناطق التي استهدفتها، بقبول سكان تلك المناطق بإعادة خضوعهم لسلطة الأسد، واعترافهم برؤيتهم الخاطئة بالمشاركة في الثورة ومحاربة نظام الأسد ومخالفتهم للدستور والقانون، وأن الدولة ممثلة بنظام الأسد هي من كانت على الدوام “تلتزم بالدستور والقوانين”، وبهذا تريد روسيا أن تعفي نفسها أولًا، وتعفي حليفها نظام الأسد، من الالتزامات أو المسؤوليات التي قد تترتب على تلك التسويات التي جرت، وأن يظهروا معًا بمظهر البريء وغير المسؤول عن كل ما جرى ويجري في سورية منذ سبع سنوات.

إن أي حديث عن “مصالحة وطنية” في سورية لا معنى له؛ ما لا يتضمن الاعتراف بحقوق الضحايا ورد الاعتبار إليهم، وضمان عدم تكرار المآسي بحقهم، وما لم يتضمن محاسبة واضحة بحق المسؤولين عما آلت إليه الأوضاع في البلاد، ضمن سياق واضح ومحدد يؤدي إلى الانتقال بسورية، من مرحلة الاستبداد والاستئثار بالسلطة إلى مرحلة أساسها صياغة عقد جديد يفتح الطريق أمام قيام دولة مدنية ديمقراطية، تعتمد على سيادة القانون والقضاء المستقل وتداول السلطة سلميًا، بما يمكّن السوريات والسوريين من التمتع بحرياتهم الأساسية وبحقوقهم المدنية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أساس مبدأ المواطنة المتساوية التي من أسسها الحرية والمساواة والمشاركة والمسؤولية.

لا أحد في سورية ضد تحقيق “المصالحة الوطنية” سوى أمراء الحرب والفاسدين من جميع الأطراف، فالمصالحة الوطنية أصبحت اليوم حاجة ضرورية وملحة، لإرساء السلم الأهلي في سورية، هذه المصالحة التي تقوم على تطبيق آليات العدالة الانتقالية التي تبدأ بمحاسبة ومحاكمة مجرمي الحرب وعزلهم عن المجتمع، وتعويض المتضررين، وتخليد ذكرى الضحايا ودعم إجراء مصالحة وطنية شاملة وكشف الحقيقة، ودعم عملية الإصلاح المؤسساتي ولا سيما في القضاء والأمن والشرطة والجيش، بما يعزز سيادة القانون والحريات على أساس احترام حقوق الإنسان، والأخذ بمبدأ الديمقراطية في إدارة الدولة.

باختصار شديد: إن تغييب مسار العدالة الانتقالية عن أي حل للقضية السورية سيقلل فرص تحقيق السلام في المجتمع السوري، وسيُبقي الجمر مشتعلًا تحت الرماد، ولا يُعرف متى ينفجر مجددًا.

مقالات ذات صلة

إغلاق