مقالات الرأي

الإيطاليون في سورية.. استفحال الاستعمار

على العكس من فرنسا وبريطانيا اللتين شكّلتا معظم خرائط الدول الحديثة، لا سيما دول منطقة الشرق الأوسط، لم تستطع الدول الأوروبية الأخرى، ومنها إيطاليا، التأثير كثيرًا في المسار الجيوسياسي للمنطقة، وكذلك لم تستطع الحصول على نفوذٍ استعماري ملموس فيها.

لم تصل إيطاليا، في أوج الانبساط الاستعماري في المنطقة، إلى سورية قط، والمرشح أن سورية لم تكن في حساباتها التمددية أصلًا.

لفتت وكالة (الأناضول) بخبرها الذي أوردته حول انتشار عدد من الجنود الإيطاليين في شمال شرقي سورية، الأنظار نحو “دولنة” تلك المنطقة في سورية، وبحسب الخبر فإن 20 جنديًا من الجنود الإيطاليين تمركزوا في محيط حقل العمر النفطي.

ربما يتساءل المتابع عن العوامل التي دفعت إيطاليا إلى إرسال قواتها إلى سورية في التوقيت الحالي، أكثر من تساؤله عن مدى ركاكة النظام السوري في حماية السيادة الوطنية التي طالما تغنى بها.

يكاد ارتباط المسألة بمعادلات توازن القوى الفاعلة، أن يكون العامل الرئيس لوطئ القدم الإيطالية سورية. فمع مرور كل يوم، يزداد احتدام الأزمات في دول الربيع العربي، وسط تبارٍ دولي تتسنمه الدول الكبرى، من أجل حجز مقعدها للحصول على أكبر قدرٍ ممكن من المنافع الجيوسياسية والجيواقتصادية في المنطقة.

تفعل إيطاليا في ليبيا، التي تعدّ حديقتها الخلفية الأساسية في منطقة الشرق الأوسط، وهناك تخشى، على الأرجح، من اتساع النفوذ الروسي الداعم “لجيش حفتر” ضد حكومة طرابلس المعترف بها دوليًا، والمحالفة لإيطاليا التي انتشرت في آب/ أغسطس المنصرم في ميناء طرابلس، وتعرضت لتحذيرات من حفتر، وترحيب من حكومة طرابلس.

طلبًا لتحقيق الاستقرار وتذليل عواقب حالة الفوضى الفاعلة في ليبيا، وسعيًا للإبقاء على امتيازاتها فيها قياسًا بالدول المنافسة، لا سيما روسيا، ورغبةً في تخفيف التوجه الروسي نحو أفريقيا عمومًا، وحوض شرق المتوسط خصوصًا؛ سعت إيطاليا، ربما، نحو استباق الخطى في الانطلاق في مضمار منافسة روسيا، فهي، في ضوء هذه التحديات، بحاجة إلى ورقة دبلوماسية وأمنية تضغط بها على روسيا في منطقةٍ حيويةٍ بالنسبة إليها، بما يؤسس لها، أي لإيطاليا، توازن قوى يرعى مصالحها الحيوية، نسبيًا، في الواحة الليبية. ويبدو أن الورقة الأفضل لإيطاليا كانت سورية التي تركن إليها روسيا كقاعدة جغرافية استراتيجية، تنطلق منها صوب المياه الدافئة المميزة بالأهمية الجيوسياسية والزاخرة بالمصادر الطبيعية، إضافة إلى المناطق الاستراتيجية الأخرى في المنطقة.

تحاول إيطاليا (العضو في الاتحاد الأوروبي)، عبر التعاون مع مصر وحكومة طرابلس، رفع مستوى وجودها الجيواقتصادي في حوض شرق البحر المتوسط، وفيما يتوافق تحركها مع مشروع الاتحاد الأوروبي الاستراتيجي حيال المنطقة (مشروع توحيد شطري المتوسط)، يُنافسها ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في ذلك روسيا التي تسير على نهج مشروع “أوراسيا” القائم على توسيع نطاق وصول وسيطرة روسيا على المياه الدافئة، في منطقتي آسيا وأوروبا وفي أفريقيا أخيرًا، من خلال عقدها مع مصر عدة اتفاقيات اقتصادية وعسكرية، مكّنتها من الوصول إلى بناء قاعدة عسكرية في مدينة سيدي براني القريبة من ليبيا، وتوقيع اتفاقٍ معها يقضي بالسماح لها، أي لروسيا الداعمة لحفتر، بتبادل استخدام المجال الجوي والقواعد الجوية، بالإضافة إلى التعاون في إنشاء مفاعل نووي لتوليد الطاقة الكهربائية. ولا بد من الإشارة إلى التعاون العسكري والأمني والسياسي بين روسيا واليونان من جهة، وروسيا وقبرص اليونانية من جهةٍ أخرى، إذ إنه يثير خيفة الدول الأوروبية، لا سيما إيطاليا وبريطانيا ذواتا النفوذ والمصالح الحيوية في الحوض. ولا ريب في أن اتجاه روسيا نحو رفع مستوى وجودها العسكري والجيواقتصادي، في محيط حوض البحر المتوسط، يدفع إيطاليا ودولًا أوروبية أخرى إلى الانتشار في منطقة حيوية جدًا بالنسبة إلى روسيا. وما يزيد من احتمال صحة هذا السيناريو، هو توجه إيطاليا نحو الانتشار في سورية، في الوقت الذي أخذت فيه الأزمة السورية بالاتجاه نحو التسوية، وظهور بوادر توجه دولي نحو التنافس الجيواقتصادي في حوض شرق البحر المتوسط. أيضًا إيطاليا التي كانت مكتفيةً في البداية بإرسال الأسلحة والذخائر والدعم الإنساني، باتت اليوم تشارك في معارك ميدانية مباشرة في محاربة (داعش)، كمشاركة قواتها في تحرير قرية الدشيشة في الحسكة. والغالب أن مشاركتها تأتي في إطار قصدها رفع مستوى تواجدها، في صياغة معادلة التسوية في سورية التي ترى فيها ورقة ضغط محتملة ضد روسيا.

إذا اعتبرنا أنّ عامل محاولة إيطاليا الدخول في سورية هو الترويج لأسلحتها، كما تفعل الدول الأخرى المشاركة في النزاع السوري، والاستفادة من المقدرات النفطية لسورية؛ فإن الاعتقاد باحتمال سعي الولايات المتحدة “لدولنة” وجودها في سورية، يأتي في إطار المنطق، حيث يمكن أن تسوق الولايات المتحدة سبب تواجدها والدول الأخرى، تحت بند مبدأ “مسؤولية الحماية” الذي ينص على انتقال مسؤولية حماية المدنيين إلى دول المجتمع الدولي، في حال لم يتم حمايتهم من قبل بلادهم، أو تعرضوا لانتهاكات كبيرة من قبلها، إذ يمكن سياق ذريعة وجود احتمال دائم لاستخدام النظام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، لذلك لا بد أن تتواجد “قوة دولية” تراقب عملية السلام في الأراضي السورية. وقد يكون انتشارها قائمًا في إطار أي ذريعة شرعية أخرى من السهل عليها إيجادها.

في المحصلة؛ أضحت سورية قاعدةً رئيسة لتقاسم النفوذ العالمي في المنطقة، ويبدو أن الانتشار الإيطالي الفعلي فيها يأتي في هذا الإطار، حيث يبدو أنها ترمي إلى تكريس نفوذها النسبي، بما يضمن لها رعاية مصالحها في الساحة الدولية.

مقالات ذات صلة

إغلاق