لم ينفك الإنسان قديمًا وحديثًا، عن شغفه المتمادي في طموحه، لحلّ اللغز الذي حيّره عبر الأزمان، وهو سؤاله الوجودي عن الموت والحياة. تُرى ماذا يحلُّ بالكائن الحي بعد الموت؟!
نسجت الشعوب القديمة ملاحم أسطورية حول هذا السؤال، وصنعت لها آلهة من القوى الطبيعية الجبارة، التي لم تستطع أن تتحكم فيها، كالشمس والرياح والزلازل والبراكين… الخ. ولعل ملحمة “جلجامش” الذي راح يصارع بحثًا عن عشبة الخلود، هي مثال ساطع على ما ذهبنا إليه.
كل التراث البشري الفكري والفلسفي والديني، عبر الحضارات المتعاقبة، كان وما يزال يتمحور حول هذا السؤال، الذي أنتج نظريات فلسفية مثالية، أو مادية، اقتربت أو كانت على النقيض من الأديان التي سلّمت بالحق المطلق، القادر على كل شيء.
أنتج الخيال السينمائي الهوليودي ملاحم سينمائية، تعبّر عن هذا التوق البشري لحل لغز الوجود والعدم، وساعدت التقنيات الحديثة على تحليق الخيال إلى آماد واسعة، تقارب عوالم “فانتازية” مغرقة في عبثيتها التجريبية، وأفكارها التي تندرج في إطار اللامعقول، والخيال العلمي، كأفلام اختراق الزمن، سواء بالعودة إلى الماضي.. أو القفز باتجاه المستقبل.
يذكرّني هذا بما كتبه سعد الله ونوس عن تلك الهلوسات التي شعر بها، وهو في حالة الغيبوبة، بعد الجرعات التي كان يُحقن بها أثناء معالجته مرض السرطان، ولعل النص الذي كتبه سعد الله في مقاربته لذلك البرزخ، وتأملاته الوجودية في الموت والحياة، هو أجمل ما كتب، وقد قارب التجربة –أيضًا- الراحل محمود درويش، بعد نجاته من الذبحة القلبية الأولى.
نص سعد الله.. ونص محمود درويش كانا احتفاء بضوء الحياة التي تستحق أن تُعاش، أكثر من كونهما تمجيدًا لظلمة الموت، بيد أن ما يحّير في واقعنا المرير الراهن هو انتشار ثقافة الموت، التي تدفع شبابًا بعمر الورد إلى القتل بدم بارد، والقيام بعمليات انتحارية تزهق، إضافة إلى أرواحهم، أرواح وحيوات عشرات الأبرياء، على غفلة منهم، ناهيك عن الدمار والخراب الذي تخلّفه عبوات الانفجارات التي يحملونها.
هذا العنف التكفيري الذي اجتاح العالم العربي، راح يتطاول، ويتغذى على عنف الأنظمة التي زرعت بذور استبداد وبطش، انفجر بعد عقود في وجهها، بعد أن فاض الكيل، على شكل انتفاضات، واحتجاجات بدأت سلمية، لكن إيغال الأنظمة بالعنف، ولدّ عنفًا مضادًا، وحوّل الربيع العربي إلى شتاءٍ مظلم، تدفع شعوب المنطقة ثمنه سيولًا من الدماء، والجثث، والدمار والحرائق والمهجرين.
لم يكن العنف، والعنف المضاد مفاجئًا بالنسبة إلى الكثيرين، بيد أن كسر حاجز الخوف، والحراك الذي بدأ سلميًا، كان هو المفاجأة الكبرى، لسبب بسيط هو أن الخطاب العربي، والأدبيات العربية، لم تمتدح في يوم من الأيام السلم، ولم تتغن به أو ترفع شعاراته، بل لم يكن لثقافة السلم، وأولوية الحوار وحل النزاعات بأساليب غير عنفية، موطئ قدم في ثقافتنا، وأغلب الظن كان للسلم في قاموسنا معنى الحياد، والحذر، والابتعاد عن الشر والغناء له، كذلك لم يكن الخطاب العنفي بلا جذور، أو تراث، أو تقاليد، بل كان موروثنا الأدبي -في مجمله- موروثًا حربيًا يمجّد العنف، والقوة، ويتغّنى بالفروسية والحرب، ولعل بعض أفضل القصائد الملحمية كانت في مديح الحروب، وكل هذه المرويات كانت تحشو النفوس والمشاعر، وتعلّم، وترفع من شأن الخطاب السياسي العنفي، وفي المقابل قد لا نجد في الأدبيات العربية مديحًا للسلم، إلا فيما ندر، وإذا وُجد فهو محض حث على التسامح والتساكن والعيش المشترك.. كذلك لم يبتعد الأدب الشعبي عن التغني بالحروب ومديحها، وليس أدّل على ذلك من تغريبة بني هلال، والزير سالم، وعنترة… إلخ، التي تروي سيرة معارك طاحنة، تتطاير خلالها الرؤوس، وتسّيل فيها أنهار الدماء.. وإذا أضفنا إلى هذا كله، خطاب الجهادية الدينية؛ وجدنا أن خطاب العنف يتسلل في نسغ حياتنا، ويمهّد المناخ والأرضية الملائمة، لغسل أدمغة الشباب؛ الأمر الذي جعل بعضهم ينتقل من تقديس الخطاب العنفي إلى ممارسته فعلًا، باعتباره قيمة بحدِّ ذاته، حيث ثمة حياة أخرى بانتظاره، يذهب إليها مطمئن البال، ليجد أمامه “الحور العين”.
كم من السنوات نحتاج في سورية، وفي هذا المحيط العربي المترامي الأطراف، ليس لإعادة بناء ما هدمته الحرب، بل لإعادة بناء النفوس، ونشر ثقافة الحياة والحب السلام، وإعلاء شأن الحوار، كوسيلة لحل النزاعات، لا بوصفها تنازلًا عن حق، أو عدم مساءلة من قام بارتكاب الجرائم، أو نسيان فاعليها؛ بل بوصفها تحقيقًا لعدالة انتقالية، تشيع التسامح، واحترام كرامة البشر وحريتهم، على ضوء احترام القانون، وإحقاق الحق لأصحابه.