أدب وفنون

عبد الكريم مجدل البيك و”أثر الغائب”

اعتمد المخرج الهنغاري بيلا تار خلال فيلمه (حصان تورينو) عام 2011 على ماهية جذر المكان في ذهن الكائن، من خلال مشاهد طويلة يمكن وصفها بالأطول في السينما، نسبة إلى تلك الأفلام التي اعتمدت خاصية القطع المتكرر في بناء سياق الفيلم العام، كانت أغلب الصور البصرية تلك مسلطة على الجدران، فيما ظهرت العناصر الأخرى، كما لو كانت هامشية مبنية على عملية بناء ذاكرة مستقبلية للمكان.

يمكن القول إن الفنان التشكيلي السوري الكردي عبد الكريم مجدل البيك، سبق بسنوات عديدة تلك المعادلة التي أسست لصناعة أزمنة متعددة لمفهوم الجدار؛ الأمر مماثل لقيمة اللاجدوى تمامًا، عملية رصد أناس غير موجودين في اللوحة، في اللحظة التي تتحول فيها اللوحة إلى مرآة لا تعكس وجوه المتمعنين فيها، مرآة نفسية تعكس أزمنة وخواص ويوميات أناس يُرون في الجدار دون ظهورهم.

إنه يصنع من خلال رصد الجدُر تلك، خليطًا سحريًا يسقط في قيمة تعبيرية محيرة، هو ذاك الخليط الذي يؤسس في تجربته للتعبيرية من خلال التجريد. هنا، تأخذ ماهية التعبيرية شكلها النفسي تمامًا، لا سيما أن المتلقي يُرى في أثر الكائن الغائب عن اللوحة، لتأخذ القيمة النفسية دور الصورة المفقودة والغائبة للكائن. كل هذا من خلال تحويل اللوحة إلى جدار متنقل، ممهور بشكل الزمن وحيرته.

إذا ما أمعنا النظر في معظم أعماله المتاحة؛ فسنلحظ تلك الخاصية التي جعلت الجدار يأخذ سِمة تاريخية؛ الأمر مشابه لعملية بناء الصبر تمامًا؛ أي تأسيس الذات عبر التمعن في جدار طيني بقرية بعيدة، مرتمية على دفتر التراب والغبار والريح؛ قرية يرى منها، خلال صناعة أشكال متخيلة، عبر عينيه المنصبتين على فضاء مصنوع من لبنات وطين ممزوج بالتبن. ثمة هنا عملية واضحة لبناء الصبر، كما لو أنك معزول في كهف، وتبني من خلال صخوره المترامية فيه لغة تخاطب من خلالها غياب الكائنات. وإذا ما نظرنا في الأعمال تلك؛ لاحظنا أن الذاكرة الطفولية الوحيدة للفنان هي فعل تمعن الجدران، لا سيما أن الجدران تلك أصبحت البنية والركيزة الرئيسة التي يعبر من خلالها عن معظم الأحداث القريبة المعاصرة والبعيدة في الذاكرة. من خلال هذا الأساس يصنع خطابه البصري المبطن. أحيانًا تكون اللوحة جزءًا من جدار عائلي مكدس بصور الموتى، الأمر الذي يأخذنا إلى حيث قيمة المكان أو الجدار النفسية، لدى الأجداد الذين صنعوا منه ما يشبه السبورة المدرسية، يدونون ويعلقون عليه التفاصيل كلها، ساعين من خلاله لتعميق الألم في الذاكرة، كنوع من أنواع الوفاء للغائبين؛ كما لو أن الألم يأخذ منحى المعرفة. بالوفاء ذاته، ينقل أحداث ويوميات أناس غائبين، من خلال رسم كل ما يمكن تخيله: أناس تأملوا في عزلتهم المريبة، ثم رحلوا، أو انتقلوا إلى أزمنة أخرى وأمكنة متعددة، فيما بقي أثرهم محفورًا على الجدران هنا وهناك.

المواظبة على صناعة لوحات من المنظور ذاك، بطريقة ما، يحمل طابعًا نفسيا خاصًا! طفل يقبض على قفطان أمه بقوة، فلا يرغمه أحد على مغادرة المكان/ الأم، (الغرفة الطينية، القرية، السهول المرتمية على آثار أقدام راحلين)، الأمر مشابهٌ لعملية وجوهر الوفاء؛ تمامًا الوفاء للفكرة الأم.

ثمة محاور عديدة لعملية رسم حيوات الغائبين على لوحات آخذةٍ هيئة الجدران. قيمة الحركة الساكنة المتمثلة بعملية رسم وصناعة الزمن وتصبيره من خلال الحركة، ففي فيلم (حصان تورينو)، كانت الكاميرا مسلطة وثابتة على جدار الغرفة الداخلي، فيما يُسمع صفير الريح في الخارج، إلى جانب ظهور القش المتطاير عبر زاوية النافذة، أخذ عمليًا ذاك المشهد الثابت قيمة حركية، من خلال المداومة على التمعن فيما هو غير مرئي؛ أي عملية صياغة أحداث وتخيلها، عبر عنصر الصوت وصور القش، هنا، لا ترى الفاعل ولا المفعول به تمامًا، ترى غياب المرء إلى الحد الذي يتملكك فيه الألم على ما لا تراه ولا تعرفه أبدًا. وعلى هذا النحو يشتغل التشكيلي عبد الكريم مجدل البيك على بناء عملية تصبير الزمن، عبر حركة غير مرئية، لا سيما أنك ترى أثر المرء على اللوحة وحسب، ترى في غيابه، ترى في أثره النفسي المنتمي إلى سياق معرفي موثوق بالحدث المنتمي إلى مرحلة تاريخية معينة، هكذا ينتصر لفكرة الوفاء للجدار الذي كانت السبورة التي دون عليها عبر عينيه ذاته البعيدة القريبة.

تتجسد عملية تلقين اللوحة في حالة الألم وتحويرها إلى أداة ذات صلة بالمعرفة الفطرية، لدى الأجداد، والتي يطرحها مجدل البيك في معظم أعماله، تتجسد في القيمة الدلالية التي سعت إليها المخرجة سميرة مخملباف، من خلال فيلمها (اللوح الأسود)؛ إذ قامت مجموعة من المعلمين الكرد بالتجوال في القرى، وكي يهربوا من مراقبة طائرات الحدود، قاموا بدهن اللوحات المعلقة على ظهورهم بالطين.

يأخذ البيك، بالدلالات النفسية تلك الحيرة، فيعزز في المتلقي -من خلال عناصر حيوية، تبنى الجدران من خلالها: مثل التبن والقش والطين والمواد الأخرى المختلفة- قيمةَ الشكل المنجَز عبر دلالاته، كما لو أنه يكتب قصيدة هايكو، أو يمكن القول، بأنه، من خلال المعادلة العلمية والفنية داخل الهايكو، يرسم دلالة الصورة لا نتيجتها، بكل الأحوال، ثمة حالة ما، شبيهة بتفقد تلك النقطة التي يتمعن فيها المرء، وليس في مقدوره وصفها، كما لو أنه يسألك: ما هو الزمن؟

اللقطة الثابتة

قبل سنوات عديدة، ومن منظور قراءة المشهد السينمائي في هيئة المسرح الذي يكون المتلقي أمامه ثابتًا، بينما يتعدد الزمن أمامه، صنع المخرج هنر سليم فيلمه (كيلومتر زيرو)، ذا المشاهد الثابتة. يمكن القول بأن مجدل البيك أسس تلك البنية السينمائية من خلال الرسم؛ إذ إن تسليط النظر طويلًا إلى جدار، من خلال رسمه وصناعته عبر لوحة، يكون منتميًا عادة إلى أزمنة متعددة، تُقرأ على أنه بصمة الزمن المتحول لا الثابت، هذا من منظور القراءة الأولى للوحة، إلا أنه ثمة زمن آخر حيوي يخص عمليًا تحور اللوحة، بعد إنجازها وتركها بين أيدي الزمن المضارع عينه، فالجدار في عمله دائم التحول والتحور. في اللقطات الثابتة داخل السينما، يأخذ الصوت وصور الشخصيات عادة شكل الحركة وماهيتها داخل الفيلم السينمائي؛ أي ثمة كاميرا مسلطة على فضاء شاسع ثابت وطبيعي، بينما تأخذ الأحداث البشرية سمة الحركة، وتغذية تلك الرحابة، أحداث مرئية، من قبيل: (الكاميرا ثابتة على سرير، ومن ثم تدخل امرأة تقتعده، بينما يلحق بها رجل)، إذًا، ثمة حركة تعبيرية تساهِم في بناء الحدث. الأمر على نحوٍ مغاير تمامًا، عند مجدل البيك؛ أي أنه لا فيغور “كيان” واضح وصارم ومعلوم، خلال مشاهده الثابتة أو لوحته المفتوحة في هيئة جدار على فضاء شاسع. الكائنات غائبة؛ أي لا يمكن إدراج العمل في هيئة التعبير المحض، هو يغذي المشهد من خلال غياب الكائن وحسب، ذاك الغياب الذي يكون في هيئة رموز وإشارات صنعها أناس ومضوا، ولم يأخذ الفنان سوى أثرهم، الأمر الذي يجعله على مرمى صناعة خليط بين التجريد والتعبير، من خلال رسم ذوات البشر وليس أشكالهم.

يقول الشاعر الأميركي مارك ستراند: “في الحقل، أنا غياب الحقل”.

طيف الفاعل

صنع المخرج ألفريد هيتشكوك تقنية القراءات النفسية المتعددة للصورة البصرية الواحدة داخل السينما؛ أي إعادة صياغة وقراءة الدالات المتعددة، ثمة رابطة توثق -بطريقة ما- أعمال مجدل البيك مع معادلة هيتشكوك تلك، لا سيما أن البيك أوجد صياغة متحركة للزمن داخل اللوحة، من خلال عملية تحوير الحدث واستخدامه له داخل هيئة اللوحة، فإلى جانب أن الجدران لديه منقسمة إلى محاور عديدة، ذات صلة بأزمنة مختلفة وأحداث قد تكون سياسية أو نفسية أو اجتماعية، نلاحظ أنه، كما لو كان كائنًا يقتات من طحين العزلة، استدرج عناصر أخرى صوب أعمال أنجزت في زمن الحروب، التي لم تزل تطحن المنطقة بالعموم. هذه العناصر كانت بمثابة البصمة السرية لكل من شارك في الحرب وعلى عدة أصعدة. عناصر مثل الأسلحة النارية والبيضاء، أخذت دور المفردات الدخيلة بفعل طاقة كبيرة ليس في مقدور المرء إنهاءها على الإطلاق، إلا أن مجدل البيك أسس لحالة الانكسار عبر اللوحة، فهو لم يكرس شكل الفاعل العلني، إنما رسم وأدخل العناصر تلك، بطريقة كما لو كانت كسولة مكسورة غير واضحة، وكأنه يرسم ندم الفاعل والماهيات التي دفعته ليكون ما هو عليه الآن! رسم ما يشبه العنف الجبان أو العنف النادم والمقهور، وقد جسدت هذه الصياغات داخل لوحاته، فكرة اللاانتماء إلى الزمن الحاضر، كما تحدث عنها كولن ولسن في كتابه (اللامنتمي) الذي كان فارقًا لقراءة الوجوديين.

* عبد الكريم مجدل ألبيك، مواليد (سورية، 1973) عضو نقابة الفنون الجميلة بدمشق، خريج كلية الفنون الجميلة، قسم التصوير الزيتي دمشق– سورية 1999. أقام عددًا من المعارض الفردية والجماعية في عدد من البلدان العربية والأجنبية، وحصل على العديد من الجوائز والشهادات.

مقالات ذات صلة

إغلاق