أفتش عن الثورة، فألتقي بموزعي الشهادات الوطنية على صفحات الإنترنت، ألهث وراء شهادة لتهرب مني الوثيقة، فأرتد إلى طفولتي، أستذكر الطريقة المثلى في الغش، وأجتهد في البحث. عليَّ أن أنفصل عن الواقع السوري، وأشترك في توزيع الوطنيات، وهكذا تنتصر الثورة على الإنترنت، ونفشل على أرض الواقع.
حالة التواطؤ الجمعية التي تنكر الهزائم المتلاحقة حتى نكاد نعجز عن إحصائها، وبعد كل هزيمة ينتكس موزعو الشهادات الوطنية لاجترار القضية.
تحولت الثورة السورية إلى مصدر كسب وارتزاق، وابتكار للشعارات الغريبة الساذجة. ولعل ما حدث في درعا هو الفعل الأنسب لتعبير الاجترار، فدرعا بقيت بضعة أسابيع رمز الصمود والتصدي، وسرعان ما روج هؤلاء شعار “تسقط موسكو ولا تسقط حوران”، وتداول الشعار متزوجو القضية ومجتروها، وفُتح بازار التنظير والبكاء، وأصبح المجترون المدافعون الأوائل عن فصائل درعا الذين تراكضو لتوقيع بيانات التوحد وإنشاء غرف مركزية للمعركة الموحدة، واتحد الجانبان بشكل تلقائي وغريزي، فمتزوجو القضية يتفاهمون دون الحاجة إلى الكلام، الأول يسحب سيف الكلام ويمارس فعل إخراس العقل، والثاني يمتشق سيف العنتريات، والناس تتشرد في الصحراء، وتتسول على حدود الأردن و”إسرائيل”.
أيام قليلة، قليلة إلى درجة فاجأت الجميع؛ هرب المصالحون وحاملو السلاح، وانقلب مخترعو شعار “تسقط موسكو ولا تسقط حوران”، وأصبح الهاربون هم المجرمين والخائنين و”الضفادع”، وتم طي الشعار الساذج، وبدأ فعل الاجترار من جديد، فالقضية حمالة أوجه، وحوران مهد الثورة السورية.
مصيبتنا تجاوزت الخيانات الميدانية، والخيانات الثقافية، والارتزاق في الحقلين، مصيبتنا أننا -السوريين- انفصلنا عن الواقع، وأصبحت شعاراتنا مرنة تناسب جميع المقاسات، ولا رادع لتكبير أو تصغير الشعار، حتى وصلنا إلى مرحلة الاستقواء على النازح واللاجئ والمشرد، لنغمض أعيننا ونتخيل المشهد التالي:
“سقطت الغوطة الشرقية. درعا وفصائلها احتمت بأميركا التي أخبرتهم قبل بدء معركتهم أنها لن تكون معهم. خرج مئات الآلاف من بيوتهم إلى الصحراء، ومات بعضهم قهرًا، وبعضهم من العقارب. وانتشرت الصور الحزينة، التقطنا الصور وكتبنا قصائد الحزن والصمود، وجلسنا ننتظر ردة فعل أبطال السلاح”.
تواطؤ جماعي يتزعمه مثقفون وفنانون، يلحق بهم ناشطون، بدأ منذ ما قبل سقوط حلب، وتحول إلى مشهد مأسوي متكرر، وأما الغريب والفاجعة أن تكرار المشهد والمأساة، بدلًا من أن يؤدي إلى ظهور أفكار جديدة، أو إلى حالة من النقد المنطقي ومحاولة تجنب تكرار الكوارث الإنسانية المتلاحقة، أخذ خطًا معاكسًا تمامًا، بعيدًا من قراءة الواقع، قريبًا من الانسلاخ عنه تمامًا، وليبقى مبررو الهزيمة، والمحتفلون بالمأساة ببضعة شعارات باهتة هم الفئة السائدة والمسيطرة على المشهد السوري الأسود.
سقطت حوران، وقبلها الغوطة، وقبلها حلب، واستطعنا -السوريين- أن نحول السقوط إلى نصر، بالتنصل من أسباب الهزيمة، والتنكر للشعارات والقناعات السابقة، فمحبو “جبهة النصرة” ومروجوها قبل سنوات هم ذاتهم من ينكرها اليوم ويشتمها، ومرتزقو الدول الراعية من منظمات اتخذت من التنمية شعارًا ظاهريًا لها، ومن صحافيين، وعسكر، وسياسيين، يتعاملون على أنهم عكس الحقيقة، يبررون الهزيمة وفقًا لمصلحة الراعي الذي يدفع ويمول ويشتري، وباتت الحروب العشوائية بين إسلاميين وآخرين يطلقون على أنفسهم صفة “علمانيين”، أبعد ما يكون عن المنطق، أقرب ما يمكن إلى الاختباء وراء اتهامات ونقاشات سفسطائية.
أفتش عن الثورة، فأجد الضفدع الذي يقفز في وجهي خلف كل هزيمة، ليصبح الحيوان الأضعف هو ممثل الهزيمة السورية، ولنجد أنفسنا هاربين من الاعتراف بالواقع بالتنصل من أسباب الهزائم، ففصائل حوران لا تمثل الثورة، رغم أنها كانت تمثلها قبل يوم واحد فقط من هربهم! وفصائل الغوطة لا تمثل الثورة، رغم أنهم مثلوها في أستانا، وفي جزء من جنيف، وفي معظم أقلام ناشطي تلك المنطقة، وبالطبع الإسلام المتشدد الأقرب للإرهابي الذي تحكم به (هيئة تحرير الشام) إدلب لا يمثل الإسلام، والنظام لا يمثل الشعب، والشعب لا يمثل نفسه، وكل من لا يمثلني لا تعنيني هزيمته.. أين نحن إذًا من كل تلك الهزائم؟ ومن هم المهزومون فعلًا، هل هم شعب آخر يحمل جواز سفر بلون مختلف ويتكلم لغة غريبة عن السورية، أم أنهم المتلطون خلف الحلول السهلة، وخلف اتهام كل من نكتشف أنه لا يمثلنا بعد الهزيمة بأنه ضفدع؟
أفتش عن الثورة، عن بعض الحقائق التي يمكن أن أفسر بها هزيمتنا الكبرى، فأصطدم بشبه استحالة حدوث نقد حقيقي لمسيرة ثماني سنوات من الموت والخذلان والخيانات، فالسوري تاجر فهلوي شاطر، لا تعنيه أسباب الهزيمة، ولا يمثله الخاسر، فيريح ضميره ويمارس فهلويته في الحفاظ على مصدر رزقه، وبتوزيع شهادات الوطنية. أتذكر جيدًا عندما كنا نسخر من بشار الأسد ونعلن أنه منفصل عن الواقع، فلنواجه الحقيقة اليوم، ولنسمِّ الأمور بأسمائها، لأن الانفصال عن الواقع انتقل إلينا، فانفصلنا عن المنطق، واختصرنا الهزيمة بتعليقها على ضفدع.
نعم، الضفدع سبب الهزائم، الضفدع الذي لا يمثلنا، ليست روسيا، وليست أميركا، وليسوا أصدقاء الشعب السوري، وليسوا الفصائل ولا الكيانات السياسية الهشة المنتفعة، وبالطبع ليسوا ثوار الفيسبوك ومنظروه، إنه ضفدع أخضر صغير كافٍ لتبرير ما وصلنا إليه، ويريحنا أكثر أن نعيش على مجد الأشهر الستة الأولى من هذه السنوات الثمانية.
أفتش عن الثورة، فيعيدوني إلى الأشهر الستة الأولى، التي لم أعد أجد لها مكانًا في الذاكرة، مع ازدحام تلك الذاكرة بالموت والقتل والخيانة والضحالة والارتزاق والتسلق وخذلان العالم وانتصارات الأسد المتوالية والمتسارعة.