تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

شهادات وفاة المعتقلين تفتح باب مساءلة النظام السوري

مع تمكينها لقوات الأسد من استعادة السيطرة على الغوطة ودرعا والقنيطرة، تُحاول روسيا، القابضة على القرار السوري، تسريع عودة اللاجئين السوريين، لا سيما في دول الجوار، بالتزامن مع قيام نظام الأسد بإصدار شهادات وفاة لآلاف المعتقلين في سجونه وأقبيته، ممن قتلوا تحت التعذيب، أو ماتوا بسبب ظروف الاعتقال بالغة السوء، أو تم إعدامهم بقرارات صدرت عن محاكم الميدان العسكرية، وصُدقت من بشار الأسد بصفته “رئيسًا للدولة السورية”، من أجل سحب هذا الملف من التداول، تمهيدًا لطيه والإعلان عن نهاية الحرب، بعد الشروع في إعادة اللاجئين السوريين في دول الجوار.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو؛ هل سينجح النظام في طي هذا الملف، بمجرد إصدار شهادات وفاة للمعتقلين؟ أم أن إصدار هذه الشهادات سيفتح باب المساءلة على مصراعيه على نظام الأسد والمسؤولين عن إدارة مواقع الاحتجاز العلنية والسريّة؟

من المؤكد أن ملفًا كبيرًا، كملف المعتقلين والمغيبين قسرًا، لا يمكن طيّه بالطريقة التي يتبعها نظام الأسد، فعدد السوريات والسوريين المغيبين قسرًا يتجاوز مئتي ألف، منهم نحو ستة آلاف امرأة، وقرابة ثلاثة آلاف طفل، معظمهم ممن آمنوا بالعمل السلمي ورفضوا حمل السلاح، بينهم كثير من طلبة المدارس والجامعات، أطباء ومسعفون وصيادلة ومحامون ومهندسون وكتّاب وصحافيون، كالمعارض السياسي الدكتور عبدالعزيز الخير، ورفيقه ماهر الطحان، والمحامي خليل معتوق، وزميله محمد ظاظا، والمحاميان سامر إدريس، وعصام زغلول، والمعارض السياسي فائق المير، وعضو هيئة التنسيق الوطنية رجاء الناصر، والطبيب محمد بشير عرب، والفنان زكي كورديللو ونجله، والصحفي جهاد محمد، والمهندس عدنان الزراعي، والقائمة تطول. وكثير منهم اعتُقل لمجرد مشاركته في تظاهرة هنا واعتصام هناك، أو كتابته شعارات مناهضة على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنهم من اعتقل بتقارير كيدية، أو لمجرد تشابه في الأسماء، حيث تم احتجازهم في أماكن لا تليق بكائن بشري، في ظل معاملة شديدة القسوة، وسوء تغذية، وانعدام الرعاية الصحيّة، الأمر الذي تسبب في موت كثيرين منهم، إضافة إلى من قُتِل تحت التعذيب، أو أُعدِم بقرارات من المحاكم الميدانية العسكرية. ولم يعد هذا الأمر مخفيًا بعد أن سرّب أحد عناصر شرطة النظام العسكرية الملقب بـ “قيصر” عشرات آلاف الصور المرعبة التي أظهرت آلاف الجثامين المُرقّمة لمعذبين حتى الموت في أقبية سجون وزنازين النظام السوري، يضاف إليها الشهادات الحيّة والموثقة لمئات المعتقلين الذين نجوا من الموت في المعتقلات.

ملف بهذا الحجم يتعلق بأعداد هائلة من المحتجزين في أماكن سرّية ومعلنة، لا يمكن إخفاؤه ولا طمسه بمجرد إصدار شهادات وفاة، فلا منطق ولا عقل يمكن أن يتصور أن الموت بالسكتة القلبية أو الدماغية يمكن أن يتحول إلى وباء في توقيت واحد، يتسبب في موت الآلاف من المعتقلين الذين تم تسريب أسمائهم لدوائر النفوس مؤخرًا، كما لا يمكن للمرء أن يُصدّق حتى موت 100 شخص بالسكتة القلبية أو الدماغية في توقيت واحد، كلهم ينتمون إلى مدينة أو منطقة معينة، فكيف إذا تعلق الأمر بالمعتقلين الذين يتجاوز عددهم مئتي ألف معتقل في السجون والمعتقلات!

إن استعجال نظام الأسد، ومن خلفه روسيا، في إصدار شهادات الوفاة للمعتقلين وتوزيعها على دوائر النفوس في المحافظات، إنما يعطي مؤشرًا واضحًا على أنه بدأ يشعر جديًا بالخوف من المحاسبة والملاحقة الجنائية دوليًا، خصوصًا بعد إصدار مذكرة التوقيف بأحد مسؤوليه الأمنيين الكبار (اللواء جميل حسن)، مدير إدارة المخابرات الجوية، لذلك هو يستعجل الآن إنهاء هذا الملف، قبل الإعلان عن إنهاء الحرب في سورية والبدء في مرحلة إعادة الإعمار.

إن نظام الأسد، من حيث لا يدري، بإصداره شهادات وفاة لعدد كبير من المعتقلين لديه، يكون قد أصدر معها قرار إدانته أيضًا، فلا يمكنه التنصل من مسؤوليته عن حياة المعتقلين لديه، كأن يتذرع بتلك الشهادات التي أصدرها، فمسؤوليته تبقى قائمة بصرف النظر عن الأسباب التي أدت إلى وفاة المعتقلين، فهو يبقى مُلزَمًا ومسؤولًا عن سلامة جميع المعتقلين لديه، وعن توفير التغذية والرعاية الصحية لهم.

كما أن إصدار شهادات الوفاة، في قوائم مُرسلة إلى دوائر النفوس المدنية تضم أعدادًا كبيرة من أسماء المعتقلين، تُعدّ بمنزلة اعتراف رسمي من قبل نظام الأسد، بأن هؤلاء المعتقلين كانوا محتجزين لديه قبل وفاتهم، وهي تكشف أيضًا مدى تورط النظام، بكل أركانه السياسية والأمنية والإدارية، في محاولة طمس وإخفاء معالم هذه الجريمة، وهذا ما يجعلهم مشتركين ومسؤولين جنائيًا عن هذه الجريمة، بوصفها جريمة ضد الإنسانية.

أخيرًا، على الرغم من الانتكاسة التي أصيبت بها قضية حقوق الإنسان في العالم، نتيجة تقدم أولوية مكافحة الإرهاب الجهادي المتطرف على حساب قيم حرية وكرامة الإنسان، لا يجب أن تثني هذه الانتكاسة السوريين، ولا سيما الناشطين منهم في الدفاع عن حقوق الإنسان، عن مواصلة العمل من أجل محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سورية، أيًا كانوا، سواء من جهة نظام الأسد، أو الميليشيات والمجموعات المسلحة على اختلاف أنواعها ومسمياتها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق