مقالات الرأي

الثورة والأقليات.. محاولة قراءة

هجوم (داعش) على مدينة السويداء، حيث تقطن الأقلية الدرزية، ووصول وفد من “قوات سورية الديمقراطية” إلى دمشق، للحوار مع النظام المستبد، وهي التي تعد واجهة لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يمثل قسمًا من الكرد السوريين، تعيد طرح العلاقة بين الثورة السورية والأقليات في سورية، عبر إثارة أسئلة مثل: لِمَ لم تتمكن الثورة وقواها من جذب أي من الأقليات إلى حضن الثورة؟ ولِمَ نجح النظام في تحييد بعضها كليًا، وفي تخويف بعضها الآخر، وفي إلحاق بعضها بحربه المجنونة ضد الشعب السوري؟

أتذكر في بداية الثورة أنني كنت أتمشى في منطقة جرمانا السورية، مع أحد الرفاق من السويداء، وإذ تطرق الحديث إلى الثورة، كان موقف الرفيق أن “ما يجري هو صراع بين السنة والعلويين، وأن لا علاقة لهم بأمر كهذا”. بالطبع، إن موقفًا كهذا لا يمثل الطائفة الدرزية، ولا شباب الطائفة الذين كان قسم كبير منهم يشارك بفاعلية في صفوف الثورة، كما أن حزب الاتحاد الديمقراطي لا يمثل كل الكرد الذين شاركوا بفاعلية في صفوف الثورة.

في بداية الثورة (وقبلها أيضًا) كان للنظام استراتيجية واضحة للعمل، تتمثل ببثّ الفرقة بين الأقوام والطوائف، وإعادة إحياء المخاوف بين المناطق والأقوام والطوائف في سورية، إذ كان لكل منطقة “مقولة” يروجها النظام ويسعى لإخافة الناس بها وتحقيقها، كي تحجم تلك المنطقة عن المشاركة في الثورة؛ ففي المناطق العلوية، عمل النظام على إثارة الخوف التاريخي للعلويين من السنة، وفي السويداء عمل على إثارة الخوف من التكفيريين والجهاديين والحوارنة والبدو، ولدى الأكراد من العرب و(داعش).. وهكذا.

مقابل استراتيجية النظام هذه، لم يكن للثورة وقواها أي استراتيجية عملية على الأرض، سوى قوة الحق والعدالة، وأن “الشعب السوري واحد”، إذ لم تعطَ مسألة الأقليات والاختلافات الثقافية وطريقة التفكير، بين منطقة وأخرى من سورية، حقها. وقد بدأ هذا الشرخ يتزايد مع ذهاب الثورة نحو الأسلمة والسلاح؛ الأمر الذي زاد من ابتعاد الأقليات عن الثورة من جهة، وزاد ابتعاد الناشطين المنتمين إلى هذه الأقليات عن تأييد السلاح والفصائل الإسلامية، مع بروز رؤية باتت تتجذر تدريجيًا يومًا بعد يوم، رؤية تقوم على سعي كل منطقة للحفاظ على أمن منطقتها بعيدًا مما يحصل في سورية، عبر صوت جمعي يقول: “لا نريد أن يحصل لنا ما حصل في المناطق الأخرى”. وهذا الكلام يجد صداه العميق في الخوف القائم في العمق، بين الفئات السورية من بعضها البعض، وقد عبّر عنه الرفيق الذي استشهدنا بكلامه أعلاه، عبر قوله “هذا أمر بين السنة والعلويين”.

الحقيقة أن هذا ما كان يريده النظام تمامًا، أي منع تلك المناطق من الانضمام إلى الثورة، في الوقت الذي يريد التفرغ لمواجهة الجبهات المشتعلة ضده، لإدراكه أنه قادر على العودة لضبط تلك المناطق متى انتهى من معاركه العسكرية. ولهذا ترك النظام لتلك المناطق حرية إدارة مناطقها نسبيًا، وهو ما تمثل بـ (قوات سورية الديمقراطية) في المناطق الكردية، وظاهرة رجال الكرامة في السويداء، طالما أن الأمر لا يهدد سلطته المباشرة؛ ما يعني في حقيقة الأمر أن هذه المناطق التي توهمت قدرتها على تحييد نفسها عن الحرب السورية، وقعت ضحية خوفها التاريخي من جهة، وانسياقها مع لعبة النظام (قصدًا أو بلا قصد) من جهة أخرى، فانطبق عليها المثل القائل: “أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض”، فها هي اليوم بمواجهة النظام الذي يطلب منها الرضوخ المطلق أو حرب الإبادة، إذ لم يكن هجوم (داعش) على السويداء إلا واحدة من تلك الرسائل التي يجيد نظام الموت والقتل إرسالها، وهي الرسالة التي جاءت على إيقاع الأخبار عن مقتل العديد من الناشطين والمعتقلين في السجون السورية، كان نصيب داريا وحدها منها ألف معتقل، وكأن النظام يخيّر أولئك الذين ظنوا أنهم قادرون على تحييد مناطقهم الدمار، بين مصير داريا أو الخضوع المطلق، مثلما كان الأمر قبل عام 2011.

من جهة ثانية، لم تكن المعارضة على المستوى السياسي أفضل من النظام، في التعاطي مع مسألة الأقليات، ولعل عدم قدرة هذه المعارضة على إيجاد توافقات مشتركة مع الكرد السوريين خيرُ دليل على ذلك. ولكن، إذا كان النظام السوري يسعى، كأي نظام مستبد، لاستغلال كل شيء لإدامة حكمه وبطشه؛ فلم نجح في ذلك؟

علينا أن نعترف بأن العلاقات بين الطوائف والأقوام في سورية، لم تكن يومًا جيدة، فقد كانت محكومة بالتعايش الهش والكاذب والكلام المنافق، وما زالت في كثير منها خاضعة لهذا الأمر، وهو ما يوفر للنظام فرصة الفتك بالجميع، وهي نفس اللعبة التي لعبها في ثمانينات القرن الماضي، وفي لبنان طوال الحرب الأهلية اللبنانية، فخرج منها منتصرًا وبتفويض دولي لإدارة الأزمة اللبنانية آنذاك، فلِمَ لم نفعل شيئًا طوال هذه السنوات لانتزاع أوراق النظام هذه؟ وكيف يمكن انتزاعها حقًا؟

لا بد من إعمال معاول الفكر النقدي في النصوص التأسيسية، والفضاء الشفوي الذي يحكم الأقليات (إثنية كانت أم دينية)، هذا الفضاء الممتلئ بالكره المتبادل والنظرات المسبقة، والذي يتستر بصفة القداسة الدينية حينًا، والقداسة الثقافية أو الخصوصية حينًا، أي بدء عملية إصلاح ديني وثقافي واسعة النطاق، تقرأ في هذا التراث لتسحب منه، بل تدين وتفضح، كل ما هو زائف ويشير إلى الآخر بالكره والدونية، لأجل العمل على هوية سورية جديدة، هوية تترافق مع عقد اجتماعي جديد، يأخذ الخصوصيات الثقافية بعين الاعتبار دون أن تكون تلك الخصوصية مبررًا لنشر ثقافة الكراهية والموت والعداء للآخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق