ما زال المحللون السياسيون يتداولون مجريات قمة بوتين – ترامب في هلسنكي، وما زالت خفايا ما اتفق عليه الطرفان قيد التكهن والمتابعة، كما كانت ألغاز قمة كيري – لافروف، صيف عام 2015، التي تكشفت خيوطها لاحقًا، ولكن هل ستبقى نتائج هذه القمة طيّ الكتمان، أم أن الأحداث السياسية العالمية ومتغيراتها ستوضح نتائج هذا اللقاء؟
ما إن انتهت قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين، حتى تسارعت أحداث المنطقة والعالم، وبدأ يتكشف للعلن ما كان يبيت خلف هذا اللقاء من ترتيبات لمستقبل العالم السياسي، تم التمهيد له منذ مدة، فكان أن أعلن نتنياهو يهودية الدولة الإسرائيلية، وتم خرق تفاهم خطة (راند) الأميركية للحل السوري، بدخول القوات الروسية مناطق درعا الغربية والقنيطرة على حدود “إسرائيل” وإعلانها، أي “إسرائيل”، العمل على تطبيق قرار فك الاشتباك لعام 1974، واستعداد بوتين للتعاون في إخراج إيران وميليشياتها، ليس من هذه المنطقة فقط، بل من كل سورية. هذا، ولم يتكشف بعد مصير العقوبات على كل من موسكو، في ما يتعلق بموضوع القرم وأوكرانيا، وإيران في ما يتعلق بتدخلها بكامل المنطقة.
قبل الخوض في ما يبدو أنه مجال للتكهن الواسع، ولمجازفة سياسية في توقع مجريات المرحلة المقبلة، سنلحظ أن القمة الترامبوبوتينة محطة أمنية شديدة التكتم في خباياها، لكنها في ظاهرها قابلة للوضوح السياسي في خطوط عامة، كان أبرزها اعتراف ترامب بموقع بوتين العالمي، ومن خلفه روسيا، كمنافس قوي على خريطة العالم، وفي مجال قوانين العولمة التي يجب عليها أن تأخذ بعين الاعتبار هذا التطور الكبير للحظوة البوتينية الجديدة؛ إذًا لماذا هلسنكي كانت هي الموقعة المختارة لترتيب كهذا؟
وهلسنكي، عاصمة فنلندا، الدولة المحايدة لم تنتمِ إلى حلف الناتو، أو وارسو سابقًا، سبق لها أن استضافت قمة روسية أميركية عام 1975، بين جيرالد فورد وبريجينيف أيام الاتحاد السوفييتي، وفي عام 1990 بين جورج بوش الأول وغورباتشوف، قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي، وآخرها في 1997 بين بوريس يلتسن وبيل كلينتون؛ وأيضًا عرفت هلسنكي باتفاقيتها المشهورة التي أتت كوثيقة للتعاون بين دول الاتحاد الأوروبي بعد مؤتمر 1975، كمؤتمر عام للأمن والتعاون في القارة الأوروبية، بغية تدارس المشكلات العالمية، وكيفية حلها وترسيخ الأمن والاستقرار العالمي، وإيجاد الطرق لتغيير نوع العلاقات الدولية، التي شارك في صياغتها 35 دولة وقتئذ، لتخفيف وطأة الخلاف بين المعسكرين الشرقي -الاشتراكي والغربي- الرأسمالي، بحضور كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وقتها. وهكذا كانت اليوم، فبعد أن كانت روسيا العدو اللدود للولايات المتحدة، ها هو ترامب يعترف ببوتين بأنه منافس قوي على مستوى العالم، ويبرئه، ومن خلفه الاستخبارات الروسية، من تهمة التلاعب بالانتخابات الأميركية، الموقف الذي وصف بالمشين من صحافة الولايات المتحدة، حيث اعتبرت أنه يخرج عن أعراف الدبلوماسية الأميركية، ويعدّ إهانة للقضاء الأميركي وأجهزة استخباراته. وإن كنا لسنا في هذا الصدد، إلا من زاوية واحدة هي إلقاء الضوء على المتغير العالمي اليوم، والكيفية التي توجت فيها قمة هلسنكي تمرير الصفقات الدولية التي مُهد لها طوال الأعوام الفائتة.
قمة هلسنكي هذه، على أهميتها بالنسبة إلى كل من ترامب وبوتين، هي ذات أهمية كبرى لكل من يدور في فلك كل منهما، خاصة من الدول الأوروبية، فاللقاء الذي حمل ملفات عدة، بدءًا من القرم وأوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الروسية بهذا الشأن، إلى الوجود الإيراني في دول المنطقة الشرق أوسطية، إلى موضوع الحد من تطور الأسلحة الاستراتيجية وآلية انتشارها، وصولًا إلى الملف السوري الذي يعتبر موقع الاشتباك والتداخل الأكبر بين الدولتين، وضرورة التفاهم على وجود كل منها في حيزه الحيوي السياسي، بما يضمن مصالحه العالمية من خلال الكعكة السورية التي “احترقت”، بعد أن كثر طباخوها الإقليميون والدوليون.
ما بعد هلسنكي -سوريًا- هو تمامًا ما يجري على وقائع الأرض من متغيرات عسكرية، وبالضرورة ستكون نتائجها السياسية قريبة الوضوح، فبعد أن كانت المنطقة الجنوبية في درعا والقنيطرة والسويداء، احتماليًا، تخضع لمنطقة خفض التصعيد بين الروس والأميركان والأردنيين، الموقعة في عمان الصيف الفائت، تم نقضها والسماح للقوات الروسية باجتياحها، وفرض نموذج التهجير والمصالحات ذاتها التي جرت داخل الغوطة ومحيط دمشق؛ ما يعني خرق تفاهم كيري – لافروف عام 2015 المستند إلى خطة مركز (راند) للحل السوري؛ فهل ستكون هذه بلا ثمن أميركي وتركي؟ حيث بدأت تتسرب للعلن بعض الأخبار التي تفيد بوضع سورية تحت الوصاية الدولية متعددة الأطراف، منها رباعية (روسية – أميركية – تركية – بريطانية)، ومنها ثلاثية من دون بريطانيا، لتصبح بذلك كامل المنطقة شرق الفرات محتملة الوصاية الكلية من قبل الأميركيين، وبذراع (قسد) مع القبائل العربية فيها، ولتصبح حلب موضوع تفاهم جديد بين المثلث الروسي الأميركي التركي؟
ما بعد هلسنكي -سوريًا- لن يتوقف عند موضوع تقاسم النفوذ فحسب، بل سيتطلب تحولًا في معادلات العولمة، وآلية إقامة التحالفات الدولية، وستضع أوروبا في موقع عزم المزدوجة الضاغط بين الروس والأميركيين في مجالي الطاقة والغاز الروسي، والدرع الصاروخي والتفوق التكنولوجي الأميركي؛ ما يدفع الأوربيين إلى الاستعجال بتقديم مبادرات سياسية، لإنجاز مهمة اللجنة الدستورية السورية بقوة ناعمة تقبل بالشروط الروسية من خلال مخرجات لقاء سوتشي، ونسف كلي لمخرجات جنيف بكل لقاءاته المتتالية، ما يجهض أي فكرة للانتقال السياسي في نظام الحكم السوري، ويحوله إلى مسألة وحيدة فقط هي ما يسمى بحكومة وحدة وطنية بين النظام وبعض شخوص المعارضة. بينما تذهب باقي التوجهات الجيو – عسكرية لمتابعة فرض السيطرة الروسية على كامل المنطقة الجنوبية، وصولًا إلى القنيطرة على حدود “إسرائيل” غربًا، والتمهيد لدخول سلسل للسويداء يقضي بإخراجها من حيادها العام تجاه الأحداث السورية، والفرض عليها بإلحاق شبابها المتخلف على الخدمة العسكرية بالجيش، وربما بقطاع خاص فيه تحت الأمرة الروسية مباشرة.
سورية، منذ العام 2013، باتت محطة إقليمية، ومن بعد العام 2015 باتت محطة دولية كبرى، وأصبحت مسألتها مسألة دولية كبرى بين قوى العالم المتغولة، خاصة مع الفورة البوتينة الصاعدة في فلك منظومة العولمة بذراعيها العسكري وبعقلية جيوسياسية مفادها، كما ظل يردد ألكسندر دوغين منظرها الأكبر: عودة الأوراسية للقمة العالمية لن تتم إلا بالمرور على حقوق شعوب المنطقة (أو ما أسماهم بالآماد الصغرى)، وفرض شروط الهيمنة البرية والبحرية على محيطهم الحيوي، لتصبح قمة ترامب – بوتين تتويجًا فقط لإعادة ترتيب تقاسم النفوذ العالمي الجيوسياسي، وتصبح سورية حجر ارتكازه الأول، وحينئذ يصبح الشعب برمته مجرد أرقام سهلة الإزالة والمحو والشطب من خارطة العالم إلا تحت الوصايات المشتركة، وربما القادم أخطر.