تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

أكراد سورية.. الحلم والواقع

شكّلت (الدولة الكردية) رغبة يجتمع عليها معظم الأكراد الغارقين في ذاكرة الماضي، وأمجاد وطنهم المشتهى (كردستان الكبير)، والمهمّشين في واقع التقسيمات القطرية لدول رافضة لحقوق الشعوب، وترى في الأكراد مكوّنًا له خصوصيته القومية والثقافية التي تعجز هذه الدول عن حمايتها ضمن دساتيرها، بشكل يضمن انتماءهم الوطني الكامل، فالدول المؤمنة بسياسة العصا ضدّ من يخالفها عملت على زيادة الشعور بالمظلومية لدى طيف واسع من الأكراد، وعزّزت حلم الانتماء إلى وطن قومي ينصفهم، الذي أثمر حتى الآن (كردستان العراق)، كدولة داخل دولة تتآكلها النزاعات الطائفية، وبقي حلمًا معلّقًا في الدول الأخرى، ومنها سورية.

نجاح الأكراد في فرض واقع جديد، وإقامة حكمهم الذاتي في ما سُمّي فيدرالية (روج آفا) داخل سورية، لم يحظَ بأي موافقة دولية على وجوده، بل زاد مقدارَ التجاذبات الإقليمية والدولية التي ستقرر مصير الأكراد ومستقبلهم، كما زاد تأزيم واقع الأكراد؛ فهذه الفرصة التاريخية بالنسبة إلى كثيرين جعلتهم تحت سطوة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، التابع عمليًا لـ (حزب العمال الكردستاني)، وسوء إدارته وتقديره للحالة السورية وتداخلاتها التي تجلّت في العديد من النقاط أهمها: السيطرة الواضحة لهذا الحزب على المؤسسات السياسية والأمنية والإدارية في المناطق التي يُسيطر عليها، وإخضاعه المجتمع والناشطين والأحزاب الكردية لتوجّهاته؛ ما أشعل الخلافات على الصعيد الداخلي الكردي، كالخلاف بينه وبين المجلس الوطني الكردي، الذي أدى إلى تدهور العلاقات بين القواعد الشعبية لتلك الأحزاب.

اعتبار الحزب نفسه الحاكم المطلق لمناطق يُشكّل العرب غالبية سكانها، وممارسته كافة أشكال التشديد الأمني ضد العرب والسريان والأكراد في مدن الشمال، أشعل فتيل الاحتقان العربي ضد الأكراد، وتم وصف الحزب بأنه قوة انفصالية أسقطت عنه القدرة على العمل مع السوريين لنيل الحقوق، حيث لم يعد ينفعه تأسيسه في أواخر 2015 لـ (قوات سورية الديمقراطية/ قسد)، بوصفها قوة جامعة لكافة المكونات الموجودة. وانعدام قدرته على بناء توافقات إقليمية للاستفادة من الحدود المشتركة -سواء مع حكومة إقليم كردستان العراق التي تميل نحو المجلس الوطني الكردي، أو مع تركيا الدولة الوازنة في الصراع السوري التي تعد (حزب العمال الكردستاني) منظمة إرهابية- أثّر سلبًا في قدرة حزب الاتحاد الديمقراطي على إدارة الحكم الذاتي في سورية، والحدّ من الدعم الأميركي المرجو لجعل حلم الدولة أو شبه الدولة حقيقة.

القراءة الخاطئة للوضع السوري جعلت حسابات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عسيرةً، في إيجاد منافذ والحصول على الحدّ الأدنى من المكاسب، حيث إن ارتفاع توقعاته باستعداد أميركا للاصطدام بدولة متحالفة معها ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو) لأجله، والمضي قدمًا في دعم المشروع الكردي الخاص إلى النهاية، لم يكن سوى وهم. واستمرار رهانه على أميركا، بعد تجربة مسعود البارزاني، هو رهان خاسر، فأميركا لم تدعم حلم قيام “كردستان العراق”، لاعتبارها أن وحدة الأراضي العراقية قضية مصيرية، ولتحالفها مع الحكومة العراقية المركزية، ومع تركيا التي ترى في استقلال “كردستان العراق” تهديدًا وجوديًا لها، ولن تقف مع قيام (كردستان سورية).

من الخطأ التعويل على روسيا وقدرتها على أن تحلّ الأطراف السورية مشكلاتها مع الحكومة السورية بالطرق السلمية، وفق تفاهمات جديدة على أساس الحكم الذاتي، فجميع الدول المتدخلة بالحرب السورية، على الرغم من رفض بعضها الاعتراف بالنظام السوري، أكدت وتؤكد الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وعلى حكومة مركزية، وطي ملف إمكانية قيام دولة فدرالية في سورية؛ ما جعل (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي، كبقية الفصائل السورية المسلحة، التي يمكن إخضاعها للمساومات والمفاوضات التي تزيد من احتمالات الانسحاب مما تمسكت به.

لقد أدركت القيادات الكردية متأخرة أن الدول التي عوّلوا عليها لن تهتم بإيجاد حلّ دائم لمشكلة الأكراد وضمان حقوقهم في إدارة ذاتية، فلا وجود لمخططات غربية لإيجاد حكم ذاتي لهم، وإن وجدت فستكون مرهونة بتغيرات الميدان والتوافقات الإقليمية والدولية. وهذه لن تكون على قدر أحلام القوات الكردية وجزء من المجتمع الكردي الذي، على الرغم من رفضه لسياسات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، كان يؤيد قيام فدرالية على أساس قومي، وابتعد بشكل واضح من محيطه العربي، وزاد من تخندقه وانغلاقه، ليسير نحو تضييع قضية حقوق الأكراد المشروعة، ويضعها في مهبّ الريح، كما جرت العادة تاريخيًا. ودليل ذلك الالتفاتة الأخيرة من قبل (مجلس سورية الديمقراطي) الذراع السياسي لـ (قوات سورية الديمقراطية/ قسد) نحو تلمّس رضى النظام الذي لن يخدمها في مناطق سيطرتها؛ فالنظام لن يقبل بتسليم هذه القوات منطقة شرقي الفرات التي تُعادل أكثر من ربع مساحة سورية، وتتميز بثرواتها المائية والزراعية والنفطية، وهي التي تُعرف بـ “سورية المفيدة اقتصاديًا”، وقد سبق أن توعّد الرئيس الأسد الأكراد بالحرب، في حال عدم تسليمهم شرقي الفرات لقوات النظام، علمًا أن هذه المنطقة باتت منطقة النفوذ الأساسية لأميركا، حيث تنتشر قواعد عسكرية أميركية في عدة مناطق، وهناك سعي فرنسي لترسيخ نفوذه العسكري فيها.

أما الصفقة مع النظام لحمايتهم من تركيا، فلن تكون صفقة عادلة، والحلم بالحلول الدستورية وضمان حقوقهم في إدارة ذاتية يتمناها معظم الأكراد المصرّين على بقائهم جزءًا من سورية، تم تحجيمه بما قدمته دمشق ضمن إطار اللامركزية والإدارة المحلية، وعبر التطبيق الموسّع للقانون 107، وبالتالي لن يكون حلًا مزخرفًا بإدارة ذاتية بالنسبة إليهم، وستبقى للكثيرين منهم مطالب لن تسمح بتحقيقها الحكومة السورية.

دوّامة الفوضى والتدخلات الإقليمية والدولية جعلت القضية الكردية جزءًا من الترتيبات التي وضعت سورية على أبواب خرائط، إن لم تكن جغرافية فهي سياسية اقتصادية، لها اصطفافاتها وأثرها على التوازنات الإقليمية والدولية. وعلى الرغم مما حققه الأكراد السوريون على صعيد الإدارة الذاتية، فقد ظلوا رهنًا لحسابات وتقلّبات الشأن السوري التي تُدار في المحافل الدولية، ليظهروا، بالرغم من قدرتهم العسكرية وصِلتهم الكبيرة بأميركا ودعمها لهم، مجرد لاعب على مسارات ضبط التوازن السياسي، بين تركيا وإيران والعراق وسورية، وكذلك بين الحركات القومية الكردية في المنطقة، لتبقى إمكانية قيام دولة كردية في سورية مجرد حلم، ولتبقى حقوقهم المشروعة رهنًا بقدرتهم على التمسك بالهوية السورية كهوية جامعة، والعمل مع باقي السوريين لنيل الحقوق وبناء سورية المستقبل.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق